وأما ما حكاه القرآن من أقوال المنافقين، فإنه لا يصح الاعتماد عليه في القول بأنهم يمارسون إعلانا للكفر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن غاية ما فيه إثبات حدوث تلك الكفريات من المنافقين، وليس فيها ما يدل على شيوع هذا القول وإعلانه، ومن عادة القرآن الغالبة استعمال الأسلوب العام في التوجيهات حتى ولو كانت متعلقة بأسباب جزئية، فترى القرآن يخاطب عموم المؤمنين في الأمر والنهي النازل بسبب خاص، وهذا لا يدل على أن ما نزل بسببه الأمر أمرا شائعا في المجتمع المدني، فكلك الحال في حكاية قول المنافقين، فاستعمال الأسلوب العام لا يعني أن هذا الفعل شائع في ذلك المجتمع.
وأما انسحابهم من غزوة أحد، فإن الذي يحاول أن يتعرف حقيقة ما وقع من المنافقين يدرك بأن ما وقع منهم لم يكن كفرا ونفاقا، فإنهم أثاروا شبهة ضعيفة، وهي أنهم لا يتوقعون وقوع القتال بين المسلمين والكفار، ولهذا رجعوا إلى المدينة، وافتتن عدد من المسلمين بشبهتهم فرجعوا معهم، وهذا في حد ذاته ليس إعلانا للكفر، حتى يصح الاعتماد عليه.
القضية الثانية: موقف ابن عمر من القدرية، فإنه أنكر قولهم ولم يطالب بمنعهم أو ملاحقتهم، فموقفه هذا دال على أنه يرى أن المخالف لا يعاقب على مخالفته، وهذا يدل على التسامح العقابي كما يقول بعضهم.
وإذا رجعنا لنتحقق من موقف ابن عمر وغيره من الصحابة من طائفة القدرية في زمنهم، فإنا نجد الأمر مختلفا عن هذا التوصيف، ولا بد لنا ابتداءً أن نبين المراد بالقدرية في زمن الصحابة، فإن المقصود بهم من ينكر علم الله السابق للأشياء، فالله حين أمر ونهى لم يكن يعلم من يطيعه ومن يعصيه حتى وقعت الأفعال من المكلفين.
وحين ظهر هؤلاء، وكان عددهم قليلا، أخذ الناس يسألون من بقي من الصحابة كابن عمر وابن عباس وعمران بن حصين وواثلة وغيرهم، وسألوا أيضا كبار علماء التابعين الذي تتلمذوا على الصحابة.
وظاهر فتوى ابن عمر أنه يرى كفر القدرية الأولى؛ لأنه بين أن الله لا يقبل منهم علمهم حتى يؤمنوا بالقدر، واستدل بحديث جبريل الطويل، ليثبت أن القدرية أنكروا أصلا من أصول الإيمان الستة، وكان ابن عباس يرى قتل القدرية الأولى، فعن أبي الزبير أنه:" كان مع طاوس يطوف بالبيت، فمر معبد الجهني، فقال قائل لطاوس: هذا معبد الجهني، فعدل إليه، فقال: أنت المفتري على الله؟ القائل: ما لا يعلم؟ قال: إنه يكذب علي، قال أبو الزبير: فعدل مع طاوس حتى دخلنا على ابن عباس، فقال طاوس: يا أبا عباس الذين يقولون في القدر؟ قال: «أروني بعضهم، قلنا: صانع ماذا؟ قال: إذا أضع يدي في رأسه فأدق عنقه» (الشريعة، الاجري رقم ٤٥٨).
وهذا هو القول المنقول عن كبار علماء التابعين، كمحمد بن سيرين وإياس بن معاوية وزيد ابن أسلم ومحمد القرظي وإبراهيم النخعي ووكيع بن الجراح والقاسم بن محمد ابن أبي بكر وسالم ابن عبدالله ابن عمر، (انظر في أقوالهم: الشريعة، الاجري ٢/ ٩١٧ و ٩١٨ و ٩٢٢و٩٢٣).
فكل هؤلاء تواردوا على الإفتاء بقتل القدرية الأولى، وهم أعلم بفقه الصحابة وأقرب إلى منهجيتهم في الاستدلال، أولى بفهم أقوالهم.
وكون ابن عمر لم يفت بقتل القدرية الأولى لا يعني أنه لا يرى إلحاق العقوبة بهم، خاصة إذا علمنا أنه يرى كفرهم.
القضية الثالثة: موقف علي من الخوارج، فإنه لما ناظرهم هو وابن عباس قال لهم: "لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا، لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا "، هذا يدل على أن عليا يرى أن المبتدعة لا يتخذ فيهم إجراءً عقابيا كما يقول بعض الباحثين.