وقبل أن نبين حقيقة موقف علي رضي الله عنه لا بد أن ننبه على أن النصوص الشرعية دلت على مشروعية قتال الخوارج وقتلهم، وقد جاء ذلك في نصوص كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم:" يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة» (أخرجه البخاري رقم ٣٦١١).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم:" «إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (البخاري رقم ٧٤٣٢).
فهذه النصوص كلها تدل على مشروعية اتخاذ الإجراءات العقابية ضد الخوارج، ولهذا استند عدد من علماء المذاهب إليها في تقرير مشروعية قتل الخوارج ولو لم يبدؤوا بالقتال، وهي دلالة قوية على خطأ إطلاق القول بالتسامح العقابي بدون قيد.
وأما عدم تطبيق علي رضي الله عنه لهذه العقوبة في بداية الأمر فليس فيها دليل على أنه يرى عدم مشروعية العقوبة الدنيوية للمخالف، فإنه حرق من غلا فيه من الشيعة ولم يتسامح معهم، فموقفه من الخوارج في ابتداء الأمر يحمل على أن عليا لم يكن يقصد إلى تشتيت جهوده في محاربة الخارجين عن حكمه والمنازعين له في إمامته، وعلى ان الخوارج كان عددهم كبير جدا فلا مصلحة من قتلهم في تلك المرحلة، فلما اعتدى الخوارج وانتشر شرهم بادرهم بالقتال والقتل.
القضية الرابعة: القول بأن واصل بن عطاء كان له مجلس في مسجد الكوفة يدرس فيه مذهبه المخالف لما كان عليه الصحابة والتابعون، وهذا يدل على مدى التسامح العقابي الذي كان يزاوله الصحابة والتابعون كما يقول بعض الباحثين.
ونحن حين نرجع إلى المراجع التاريخية لنتحقق من هذا الأمر نجدها مختلفة في حكاية ما كان عليه واصل مع الحسن البصري، ولكن كل الحكايات ليس فيها ما يدل على أن واصلا كان له مجلس مستقر في المسجد يشرح فيه قوله، وإنما غاية ما فيها أنه لما انعزل عن مجلس الحسن البصري جلس إلى سارية من سواري المسجد واجتمع إليه عدد من أصحابه وأخذ يتحدث إليهم بفكرته، ولم يرد أنه أنشأ مجلسا ظاهرا في المسجد أو في غيره يشرح فيه قوله, بل الظاهر في التاريخ أن قوله كان غير مشهور ولا معلن به.
القضية الخامسة: موقف عمر بن عبدالعزيز من غيلان، فإنه - كما قرر بعض الباحثين - ناظر غيلان الدمشقي ولم يتخذ ضده إجراءً عقابيا، فلما مات عمر قتله هشام بن عبدالملك، وبلا شك أن عمر أفضل من هشام، وهذا دليل على أن الإجراءات العقابية كان منشاؤها السياسية لا الدين.
ولكن هذا التوصيف غير دقيق، فإن الناظر في الكتب المسندة يجد أن عمر لم يتسامح مع غيلان، فإنه حين بلغه عن غيلان القول بالبدعة دعاه وحبسه أياما ثم ناظره وبين له خطأه واستتابه، فأظهر غيلان التوبة والرجوع عن مقالته فخلى سبيله، وهذا يدل على أنه لو لم يعلن توبته لاتخذ منه موقفا آخر.
ثم لما مات عمر رجع غيلان إلى مقالته وقتله هشام ابن عبدالملك بعدما ناظره الأوزاعي وأفتى بقتله، فقتل، وأيد عدد كبير من كبار العلماء هذا الفعل.
وقد حاول عدد من الباحثين التشكيك في نزاهة هذا القتل وربطه بالأغراض السياسية، وقد بينت في التفسير السياسي الخلل المنهجي في هذا الربط الخاطئ.
... ... ...
وأما الأمر الثاني، وهو: اختفاء المناطات المؤثرة في بحث التسامح العقابي، فتتجلى هذه الإشكالية في القضايا التالية:
القضية الأولى: الخلط بين الحكم الشرعي وبين تطبيقه: