للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من العلوم أن النظر في نصوص الكتاب والسنة يتطلب أن يفرق الناظر فيها بين أمرين هامين:

أما الأمر الأول: فهو حقيقة الحكم الشرعي في نفسه وكيفية بنائه،

وأما الأمر الثاني: فهو تنزيل الحكم الشرعي على المعين وتطبيقه في الواقع.

وهذان أمران مفترقان في الحقيقة وفي المناطات المؤثرة وفي الشروط، فالواجب على الباحثين في الشريعة أولا بناء الحكم الشرعي في نفسه وتحرير الدلالات الصحيحة فيه وتبيان المناطات المعتبرة، وأما تنزيل الحكم على المعينين وتطبيقاته المختلفة فهذا شأن آخر له شروط واعتبارات أخرى، ويجب أن يراعى فيه ظروف زمانية ومكانية وحالية لا تراعى في بناء الحكم الشرعي نفسه.

وهذا التفريق تدل عليه تطبيقات كثيرة في عهد الصحابة وغيرهم، فمما لا شك فيه أن الشريعة ثبت فيها حد السرقة ثبوتا قطعيا، ومع هذا لم يطبق عمر هذا الحكم على بعض المعينين لظروف خاصة راعاها عمر، فعدم تطبيق عمر لا لأن الحكم ليس ثبتا عنده، إنما لأنه يفرق بين الحكم الشرعي ومناطاته وبين تطبيقاته العملية، وكذلك لم يقم عثمان حد الزانى على المرأة الجاهلة في زمنه, لا لأن عثمان لا يرى حد الزانى وإنما لأنه راعى أحوالا خاصة قامت في المعين.

وعلى هذا فانتفاء العقاب عن المعين ليس دليلا على انتفاء وجود العقوبة الشرعية نفسها، ولما لم يدرك بعض المتبنين للتسامح العقابي هذه الحقيقة أخذ يستدل على انتفاء مشروعية العقوبة بانتفاء تطبيقها، فجعل يقول: إن المنافقين لا يشرع في حقهم إجراء عقابي في الدينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ في حقهم ذلك الإجراء العقابي.

وهذا التصور مبني على مقدمة خاطئة في الاستدلال كما سبق تبيانه، وفضلا عن ذلك فإن ثمة دلالات شرعية عديدة دالة على ثبوت العقوبة الدينوية شرعا في حق المنافقين.

ومن ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} [التوبة:٧٣]، فالأمر بالجهاد والإغلاظ أمر بعقوبة دنيوية بلا شك، وقد اختلف المفسرون من الصحابة وغيرهم في معنى الأمر بالجهاد هنا، فمنهم من ذهب إلى أن المراد به الجهاد باليد واللسان، وهو تفسير ابن مسعود وغيره من السلف، واختاره ابن جرير وغيره، ومنهم من قال: إن المراد بالجهاد هنا الجهاد باللسان فقط، كما قال ابن عباس، وعموم اللفظ يقوي القول الأول، وأما الأمر بالإغلاظ فهو أمر بعدم الرفق بهم والشدة عليهم، وهذا أمر يشمل أحكاما عملية عقابية عديدة.

ومما يدل على ذلك: قوله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:٦١]، وهذه الآية واضح فيها التهديد العقابي بالقتل والتشريد، وقد أخذ عدد من العلماء مشروعية قتل المنافقين إذا أظهر نفاقه من هذه الآية.

ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على عمر ابن الخطاب تعليق القتل بالمنافق حين قال عن حاطب:" دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال عملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على عمر استحلال ضرب عنق المنافق، فهو لم يقل: وما يدريك إن المنافق يقتل، وإنما بين أن حاطبا ليس منافقا.

<<  <  ج: ص:  >  >>