وهذا الإطلاق هو الذي يقابل بينه وبين قول الأشاعرة غالبا, فإن قال العلماء عن قول الأشاعرة أغلظ من قول القدرية وأقبح، فالمراد بالقدرية هنا المعتزلة لا القدرية الأولى، ولا شك في صحة هذا الحكم، لأن قول المعتزلة يؤدي إلى تعظيم الأمر والنهي والتكليف أكثر من قول الأشاعرة.
وإذا ظهرت لنا هذه التفصيلات الهامة فسندرك أن ذلك الاستشكال لا مبرر له، وإنما هو ناتج عن عدم إدراك لهذه الأمور الهامة.
وأما المقدمة الثانية: وهي: أن المناط في قتل القدرية كان الابتداع في الدين، وهذه المقدمة وقعت فيها تجاذبات عديدة، وتباينات مختلفة في توصيف المناط الحقيقي فيها، فمن الباحثين من يقول أن المناط هو الابتداع في الدين، ومنهم من يقول أنه الوقوع في البدعة المكفرة، ومنهم من يقول أنه الدعوة إلى البدعة.
وكل هذه الأقوال غير دقيقة في تحديد المناط الحقيقي لقتل المبتدع، وقبل أن نذكر المناط الصحيح المؤثر لا بد أن ننبه على أن هذه القضية تعد من المسائل الاجتهادية التي هي محل للاختلاف السائغ الذي يقتضي الإغلاظ أو التثريب، وليست من معاقد الإجماع التي يضلل فيها المخالف، وهذا لا يعني عدم الحرص على تحرير الدلالة الشرعية فيها وعدم بيان الخطأ الواقع فيها من الأقوال المخالفة.
وثمة أمر هام لا بد من التنبيه عليه أيضا، وهو أن الإجراء العقابي بالقتل وغيره مبني على إباحة التعزير بالقتل، وهذا الأصل مختلف فيه بين أتباع المذاهب الفقهية، والذي ذهب إليه أكثر الفقهاء جواز التعزير بالقتل كما سيأتي ذكر بعض أدلته.
وبناءً على هذا الأصل ذهب عدد من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز الإجراء العقابي على المبتدع الداعية إلى بدعته بالقتل، وهو الذي كان عليه أكثر علماء السلف المتقدمين من أهل الحديث وغيرهم كما حكاه ابن تيمية.
وإذا أردنا أن نحلل القول بجواز الإجراء العقابي على المبتدع بالقتل ونحوه ونفتت منظومته الاستدلالية ونجزئ مكوناته المعرفية نجد أن المناط المؤثر في بنائه مناط مركب من أمرين:
الأول: حصول الضرر الديني بسبب البدعة.
والثاني: انحصار دفع الضرر في القتل فقط، ولا بد من توفر هذين الأمرين حتى يصح قيام المناط المؤثر، فإذا لم يحصل الضرر الديني بالبدعة فلا يجوز المصير إلى القتل، والمراد بالضرر هنا قدر زائد على مجرد المخالفة للشرع، وإلا جاز قتل كل من وقع في المعصية وكل من وقع في بدعة ولو لم تكن غالية، وكذلك إذا أمكن إزالة الضرر بغير القتل فإنه لا يجوز المصير إليه، وكذلك إذا لم يزل الضرر بالقتل فإنه لا يجوز المصير إليه.
وتحديد تحقق هذا المناط المركب في الواقع مما يحصل فيه الاجتهاد، ويقع الاختلاف في تحديد الظروف التي يتحقق فيها، ومن الظروف التي لا يتحقق فيها - في تصوري- أن تكون البدعة شائعة ومنتشرة ويتبناها عدد كثير، ففي هذه الحالة لا يحقق القتل اندفاع المفسدة، وكذلك إذا كان انتشار السنة التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم ضعيفا، فالقتل لا تندفع به المفسدة والحالة هذه.
ويمكن لنا أن ندرك هذه المناط المركب من تقريرات كثير من الفقهاء، وفي هذا يقول ابن عابدين من الحنفية:" والمبتدع لو له دلالة ودعوة للناس إلى بدعته ويتوهم منه أن ينشر البدعة وإن لم يحكم بكفره جاز للسلطان قتله سياسة وزجرا لأن فساده أعلى وأعم حيث يؤثر في الدين" (ابن عابدين ٤/ ٢٤٣).
ويقول ابن فرحون من المالكية:" وأما الداعية إلى البدعة المفرق لجماعة المسلمين فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل" (تبصرة الحكام ٢/ ٢٩٧)