وهذا المناط المركب ظاهر في تقريرات ابن تيمية، وهو يعد من أوضح العلماء الذين حرروا وجه التركيب فيه، وفي هذا يقول ": ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل، مثل المفرق لجماعة المسلمين والداعي إلى البدع في الدين" (الفتاوى ٢٨/ ١٠٨).
يقول أيضا:" وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس، كما يقتل المحارب، وإن لم يكن في نفس الأمر كافرا، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته، وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه" (الفتاوى ٢٣/ ٣٥١).
ومن أجمع تقريرات ابن تيمية في هذه القضية قوله:" فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج؛ كالحرورية والرافضة ونحوهم: فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم؛ كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أينما لقيتموهم فاقتلوهم} وقال: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وقال عمر لصبيغ بن عسل: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. ولأن علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه. ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض. فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة. ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام؛ ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة ولم يكن يتبين له أنهم هم " (الفتاوى ٢٨/ ٤٩٩).
وهذه التقريرات من ابن تيمية تدل على أنه لا يعتمد على قصة عمر مع صبيغ فقط، ولا على موقف علي من السبئية فقط، وإنما ينطلق من أصل كلي في الشريعة وهو أن الشرع جاء فيه إباحة دم المسلم لأجل أمور تتعلق بالشؤون الدنيوية، فما يتعلق بالدين يكون من باب أولى، كما سيأتي بيانه.
والملاحظ أن عددا من المعاصرين لم يهتم بتحرير وتعيين الأدلة الشرعية التي استُنبِط منها ذلك المناط المركب، ولأجل هذا أخذ بعضهم يقول: إن دليل هذا القول ضعيف؛ لأنه مبني على الاستدلال بفعل الحجاج أو هشام ابن عبدالملك أو مبني على كون أكثر السلف قال به.
وإذا مارسنا مزيدا من التحليل لتقريرات المحققين من العلماء الذين تبنون هذا الموقف نستطيع الكشف عن الأدلة الشرعية التي كانت وراء بناء هذا القول، وتتحصل هذه الدلالة في قياس الأولى.
وصورة هذا القياس: أن الشريعة أباحت دم المسلم المعصوم بأمور عديدة ترجع إلى الفساد في الأموال والمصالح الدنيوية، والمبتدع الذي يتبنى بدعة غالية ويدعوا إليها يؤدي إلى إحداث ضرر كبير في دين الناس، والدين أعظم من المصالح الدنيوية، فإباحة القتل فيه من باب أولى.
والأصل المقيس عليه في هذا القياس أصل كلي قطعي، كما جاء قي قتل الزاني المحصن وقتل المفارق للجماعة الشاق لعصى الطاعة وقتل الصائل وقتل المحارب وقتل الخوارج وقتل الساحر وقتل من أتى ذات المحارم وقتل تارك الصلاة وغيرهم
والعلة في أباحة الدم في هذه الأمور تحقق الفساد في دين الناس ودنياهم، وهذه العلة متحققة بصورة أكبر في صاحب البدعة الغالية الذي يسعى إلى الدعوة لبدعته، فإباحة دمه بناءً على ما سبق تكون من باب الأولى.
وهذا الأصل القطعي كان معتمد عدد من العلماء في الافتاء بالقتل في أمور لم ترد في النص الشرعي، ومن تلك الأمور: الإفتاء بفتل فاعل اللواط، ومن الأمور: الإفتاء بقتل الجاسوس، من تلك الأمور: الإفتاء بقتل شارب الخمر في المرة الخامسة، فهذه القضايا أفتى فيها عدد من العلماء بالقتل، قياسا على ذلك الأصل الكلي.