للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأجل ذلك يقول بعضهم: انظروا في الكتب الأخرى والأفكار الأخرى، فهي التي تُفَتِّقُ الذهن، وتوسع مدارك العقل، وكأنَّ القرآن أغفل الحديث عن الكثير من الجوانب التي تصلح الكون والإنسان والحياة، وقد أحسن الإمام ابن القيم حين تحدث عن أمثال هؤلاء فقال عن القرآن ومن لا يعتنون به: " أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلو فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم وتناول القرآن كتناوله لأولئك " (١).

• فكان للمهتم بالفكر أن يهتم بالذكر:

أعجب ويحقُّ لي العجبُ من شدَّة هوس بعض الشباب العربي المسلم بقراءة كتب المفكرين الغربيين وأقوال الفلاسفة اليونانيين، وهم في الحقيقة خلو من مشاهدة وتأمل ما في الكتاب الكريم من آيات وعظات وحكم ومعاني عميقة، وما في السنَّة النبوية المطهَّرة من جوامع الكلم، وسامق الحكم، ورائق العبارات، وبديع المقالات.

هذه مشكلة كبيرة نعيشها مع شباب اليوم المقبل على النوادي الفكرية والصالونات الثقافية ظانين أنَّ مصدر السعادة ومعين الرضا والسرور هو في مناقشة فكر أحد الكتاب أو الفلاسفة الغربيين، وتجد أنَّهم قد يتكلفون ببعض العبارات وحشد الجمل واللفظات وتكديس المصطلحات حينما يتحدثون لكي يقول عنهم القائل: إنَّهم فعلا فلاسفة وحكماء عباقرة!

حتَّى إنني أتذكر واحداً من هؤلاء قال لي يوماً: إنَّ لديه دفترا قريباً منه كان يكتب فيه بعض المصطلحات والعبارات الرنانة التي تستهوي عقله؛ لكي يستخدمها في بعض مقالاته فتجد في المقال حشداً مصطلحياً لربما لو سئل كاتبه ما معنى ما قصدته بالضبط لحار جواباً وأطرق رأساً!

وعلى كُلٍّ؛ فإنَّ من يظنُّ أنَّه في بداية مطالعاته سيهتم بعلوم فلسفيَّةٍ وقراءات في المنطق والفكر الغربي، ويغفل القرآن ويظنُّ نفسه أنَّه بالفعل يريد الجمع والدمج بين الإسلام عقيدة وشريعة وبين ما هو مسطور في كتب الفلاسفة ومزبور في تراثهم، فإنَّه سيكتشف بالفعل أنَّه لن يبلغ النتيجة التي قصدها وخصوصاً إن كان ذلك في بداية مطالعاته، بل يخشى عليه بالفعل من عقائد أولئك الفلاسفة والتي في أغلبها تجاهل لحكمة الرب، وتشكيك في كثير من الغيبيات، وإنكار علم الله الكامل، ونفي معاد الإنسان، فأي فكر فلسفي لرجل يريد أن يُنوِّر المسلمين بفلسفة أولئك الفلاسفة والمناطقة، وكأنَّ في القرآن والسنَّة نقصاً ليس موجوداً إلاَّ في كلامهم، وبعد هذا وذاك يريد ذلك الشخص أن يطلق عليه الناس أنَّه مفكر إسلامي، وهو لربما يكون إلى العلمنة والليبرالية أقرب منه إلى الإسلام، ولهؤلاء أقول وأذكرهم بما قاله المفكر الفرنسي المسلم فنساي مونتاي: (إنَّ مثل المفكر العربي الإسلامي المبعد عن تأثير القرآن كمثل رجل أفرغ من دمه!) (٢).


(١) مدارج السالكين لابن قيم الجوزية: (١/ ٣٤٣)
(٢) رجال ونساء أسلموا (٥/ ٤٥)

<<  <  ج: ص:  >  >>