للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا بالفعل شيء حاصل فالكثير من هؤلاء باتوا يهربون من مطالعة النصوص الشرعية من كتاب الله وسنَّة رسوله ويستشهدون بها، ويحاولون أن يأتوا بآراء فلسفيَّة وحجج كلامية، وأحسنهم حالاً من لا يأبه بذكر النصوص الشرعيَّة بل يهتم بالمقاصد وفقه المقاصد، ويحاول أن يقفز على هذه النصوص بما يراه هو أنَّه من مقاصد الشريعة، وعندئذٍ تذكرت قول الفاروق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم" (١).

إنَّ ما ذكرته من حالة مأساوية وقع فيها الكثير ممَّن يعدون أنفسهم فلاسفة وأهل رأي حصيف وفكر مكين، لكنَّ إدبارهم وإعراضهم عن الاهتمام بنصوص الوحيين تأملا وتدبراً وتفكراً وإسقاط هذه النصوص على الواقع، ومعالجة الواقع بالأدلة الشرعية بات شيئاً ضعيفاً، وصار الكثير منهم يستروح للحديث الإنشائي أو لذكر حِكَمِ وتجارب الفلاسفة، ومن لطائف ما حصل أثناء كتابتي لهذا المقال أن أرسلته لأحد أصدقائي المصريين المثقفين والمتميزين في المجالات الفكرية والفلسفيَّة، وحينما قرأ المقال وانتهى منه أرسل لي رسالة يقول فيها: (لكني أوافقك تمام الموافقة فيما ذهبت إليه، ووالله إني لأعاني من ذلك في الجمعية الفلسفية التي أحضر ندوتها كل شهر والتي يرأسها الدكتور حسن حنفي؛ حيث لا كلام إلا عن الغرب وأعلامهم، ومذاهبهم من الكلاسيكية حتى الحداثة وما بعد الحداثة ... كلها أمور تقسي القلب إلى جانب أنها لا تقيم نهضة للأمة!)

• فليكن الفكر منطلقاً من أساس متين:

قد يقول قائل: وهل يُراد من عموم الشباب العربي المسلم المثقف أن يكونوا علماء في الشريعة، فإنَّ هذا لا يتأتَّى ولا يمكن، ونحن بالفعل بحاجة لشباب مثقف ومفكر؟

وبالطبع، فإنَّ الأمَّة الإسلاميَّة ليست بحاجة للعلماء الفقهاء فحسب، بل هي كذلك بحاجة للشباب المثقف الواعي والمفكر بقضايا أمَّته والذي يندمج في واقعها الحيوي ويناقش مشاكلها بعمق وموضوعية وشفافية، لكن مع وجوب المواظبة على ورد يومي من قراءة كتاب الله وشيء من تفسيره مع التدبر بما فيها، ومطالعة شيء من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وقراءة سيرته العطرة، فالمنتسبون لأمَّة الإسلام يجب عليهم أن يكون لديهم التصاق تام بهذا الإرث (كتاباً وسنة) فهو عصمة لهم من الفتن، ووقاية لهم من مضلات الأهواء، خصوصاً حينما يحسن القارئ لهما التعامل معهما.

إنَّ الإشكالية الكبرى لدى هؤلاء أنَّهم يظنُّون أنَّ القرآن الكريم ما هو إلا حديث عن الغيبيات أو كما قال أحدهم عن الميتافيزيقيا فحسب، وأمَّا غير ذلك من الأجوبة التي تعنى بأمور تنظيم العبادة بين العبد وربه، وإعمار الكون بالإيمان والبنيان، والسير في الأرض، والأمر بالعدل وإنكار الظلم، وتزكية الأنفس، وتكوين الأسرة الصالحة، وإثبات كرامة الإنسان، والدعوة إلى التعاون على البر، ليست في وارد ذهنهم إطلاقا، فلا يظنَّون القرآن إلا مجرد بكائيات فحسب!


(١) إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: (١/ ٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>