للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن حمدان في [صفة الفتوى] (١٤): "عظم أمر الفتوى وخطرها وقل أهلها ومن يخاف إثمها وخطرها وأقدم عليها الحمقى والجهال ورضوا فيها بالقيل والقال واغتروا بالإمهال والإهمال واكتفوا بزعمهم أنهم من العدد بلا عدد وليس معهم بأهليتهم خط أحد واحتجوا باستمرار حالهم في المدد بلا مدد وغرهم في الدنيا كثرة الأمن والسلامة وقلة الإنكار والملامة"

وما أحوج هؤلاء لمن يأخذ على أيديهم ويحتسب في منعهم وزجرهم حتى لا يقولوا على الله بغير علم.

قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: "ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق".رواه الإمام ابن عبد البر في [جامع بيان العلم وفضله] (٢/ ٢٠١)

وقد كان الإمام ابن تيمية رحمه الله شديد الإنكار على من يفتي وهو ليس بأهل. قال الإمام ابن القيم في [إعلام الموقعين] (٤/ ٢٣٧) سمعته يقول قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسبا على الفتوى؟ َ! فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب.

قال الخطيب البغدادي في [الفقيه والمتفقه] (٢/ ٣٢٤): "ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها وأوعده بالعقوبة، إن لم ينته عنها، وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قوما يعينونهم، ويأمرون بأن لا يستفتى غيرهم"

وهناك من يفتي بفتاوى لها حظ من النظر والصواب وقال بها بعض أهل التحقيق من أهل العلم ولكن قد تفهم على غير فهمها وتحمل مالا تحتمل فيكون السكوت عنها به أجمل وأليق .. فليس كل ما يعلم يقال.

وقد بوب الإمام البخاري في صحيحة باب "مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا".

وروى عن عَلِيٌّ رضى الله عنه (١٢٧) أنه قال:"حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ".

وروى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:"مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً".

قال الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] لابن حجر (١/ ٢٠٣): "وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِه لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَر عِنْد الْعَامَّة. وَمِثْله قَوْل اِبْن مَسْعُود: "مَا أَنْتَ مُحَدِّثًا قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغهُ عُقُولهمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَة "رَوَاهُ مُسْلِم. وَمِمَّنْ كَرِهَ التَّحْدِيث بِبَعْضٍ دُون بَعْض أَحْمَد فِي الْأَحَادِيث الَّتِي ظَاهِرهَا الْخُرُوج عَلَى السُّلْطَان، وَمَالِك فِي أَحَادِيث الصِّفَات، وَأَبُو يُوسُف فِي الْغَرَائِب، وَمِنْ قَبْلهمْ أَبُو هُرَيْرَة كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْجِرَابَيْنِ وَأَنَّ الْمُرَاد مَا يَقَع مِنْ الْفِتَن، وَنَحْوه عَنْ حُذَيْفَة وَعَنْ الْحَسَن أَنَّهُ أَنْكَرَ تَحْدِيث أَنَس لِلْحَجَّاجِ بِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ لِأَنَّهُ اِتَّخَذَهَا وَسِيلَة إِلَى مَا كَانَ يَعْتَمِدهُ مِنْ الْمُبَالَغَة فِي سَفْك الدِّمَاء بِتَأْوِيلِهِ الْوَاهِي، وَضَابِط ذَلِكَ أَنْ يَكُون ظَاهِر الْحَدِيث يُقَوِّي الْبِدْعَة وَظَاهِره فِي الْأَصْل غَيْر مُرَاد، فَالْإِمْسَاك عَنْهُ عِنْد مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْأَخْذ بِظَاهِرِهِ مَطْلُوب".

وقد كان السلف الصالح يمسكون عن الحديث والفتوى عند خشية اللبس أو عدم الفهم!

قال ابن شبرمة: "إن من المسائل مسائل لا يجمل بالسائل أن يسأل عنها ولا بالمسئول أن يجيب ".رواه الخطيب في [الفقيه والمتفقه] (٢/ ٩١)

وانظر في هذا التعليق النفيس للحافظ الذهبي عَلى حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:"حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ". في [سير أعلام النبلاء] (٢/ ٥٩٧) (١٠/ ٦٠٣).

وانظر لزاماً ترجمة الإمام وكيع بن الجراح في [سير أعلام النبلاء] (١٧/ ١٦٦) والمحنة التي حصلت له وكادت تذهب فيها نفسه!

وختاماً أقول لقد تكلم في العلم، وأفتى الناس من لو أمسك عن الفتيا وعن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى به، وأقرب لسلامة له، فا للهم إنا نشكوا إليك هذا الغثاء.

وأمثال هؤلاء المتخبطون ينبغي منعهم بل يجب، فالحجر لاستصلاح الأديان, أولى من الحجر لاستصلاح الأموال والأبدان، والله المستعان.

<<  <  ج: ص:  >  >>