وأما الحالة الثانية وهي حالة إنكار المنافقين ماينسب إليهم، وحلفهم الأيمان بجحده، فهي كثيرة ومن ذلك قوله تعالى (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ)
وقوله تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ)
وقوله تعالى (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ)
وقوله تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)
بل أخبر الله عن هذه الوسيلة عندهم كقاعدة عامة في قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) أي ترساً ووقاية يستجنون بها، فيتفوهون بالعبارات المصادمة للشريعة فإذا بلغت الرسول حلفوا ماقالوا وأنكروا وجحدوا!
والباحث الموضوعي الصادق في البحث عن الحقائق الشرعية يسأل نفسه: لماذا كان المنافقون يحلفون في إنكار ماينسب إليهم؟ لو كان الأمر متروكاً لهم على سبيل الحرية فهل كانو بحاجة إلى الحلف والإنكار؟ وكونهم يحلفون منكرين جاحدين هذا يعني أن هناك "حالة استدعاء ومساءلة وتحقيق" مسبقة اضطرتهم إلى الحلف والإنكار.
وأما حالة الاقرار بالفعل والاعتذار عنه فهي كثيرة أيضاً، ومن ذلك قوله تعالى: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ)
وقوله تعالى (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)
والباحث الموضوعي يسأل نفسه هاهنا -أيضاً- لماذا بعتذرون عن ما تثبت نسبته إليهم؟ هل لوكان الأمر على سبيل الحرية الشخصية الواسعة احتاجوا للاعتذار؟
وفي بعض الأحوال قد تتحقق شروط العقوبة لكن يمنع من إقامتها مانع شرعي راجح، وهو قيام فتنة أعظم، وهذا مما كان يراعيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ابن أبي خصوصاً، فإنه بقي في بعض القلوب حمية له لأجل مركزه السيادي السابق بين الأوس والخزرج.
وأما إذا تحققت شروط العقوبة وانتفت موانعها الراجحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإنفاذ العقوبة، ولذلك عاقب الثلاثة الذين خلفوا، ولما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة أمّن الناس جميعاً إلا تسعة نفر فإنه أراق دماءهم وكان منهم: عبد الله بن سعد بن ابي السرح، ومقيس بن صبابة، وهذين كانا مسلمين ثم ارتدا. فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لهم حرية الرأي!
وكذلك أصحاب النبي حين قاتل أبوبكر المرتدين، وقتل أبوبكر أم قرفة لما ارتدت بمحضر الصحابة، وقتل ابوموسى ومعاذ بن جبل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد كما في الصحيحين.
بل إن عمر جلد صبيغ لما سأل عن متشابه القرآن، ولم يقل هامش حرية الرأي!
وفي صحيح البخاري عن (عكرمة قال أتي علي بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقتلتهم لقول رسول الله: من بدل دينه فاقتلوه).
فهل هذه الأقضية النبوية والراشدية كلها لم تفهم آيات أفعال المنافقين بينما فهمها مجموعة من المنتسبين للفكر المعاصر الذين ليس لهم عبودية الصحابة ولا عمق علمهم بالشريعة؟! أفهذا من العقل والعقلانية في شئ؟!
وبعض هؤلاء يحتج ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بعض أسماء المنافقين حيث أطلعه الله على ذلك؟ والحقيقة أن هذا المعترض لم يستوعب أن أحكام الإسلام يجريها النبي صلى الله عليه وسلم على الظاهر، ولذلك يقول الإمام الشافعي في كتابه الأم (قد علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن المنافقين كاذبون وحقن دماءهم بالظاهر) [الأم، الشافعي، ٤/ ٢٦٤].
الجواب التفصيلي عن الشبهة: