بل إن المفكر الفرانكفوني المتطرف محمد أركون اضطر للاعتراف بإقبال الإسلاميين على كليات العلوم الطبيعية حيث يقول عن الإسلاميين:(نلاحظ مثلاً أن دارسي العلوم الفيزيائية والرياضية والطبية وغيرها ينخرطون في صفوف هذه التيارات -أي الإسلامية- أكثر بكثير من المختصين بعلوم الإنسان والمجتمع، وقد عرفنا أثناء المعارك والاشتباكات التي جرت في جامعات تونس والجزائر والقاهرة الخ أن المتعصبين والمتزمتين ينتمون بشكل خاص إلى كليات العلوم، إنها ظاهرة تستحق التأمل والتفكير)[تاريخية الفكر العربي، أركون، ٢٦].
كم أشعر بالأسى إلى أولئك الذين جعلوا مشروعهم هدم الخطاب الشرعي لأهل السنة بزعم أنه يتعارض مع العلوم المدنية، برغم أن الإسلاميين أسبق من غيرهم في هذا المضمار، ولكنهم يضعون المدنية الدنيوية في منزلتها التي أنزلها إياها القرآن، مجرد وسيلة لتحقيق المطالب الشرعية، ولايجعلونها هي معيار التقدم والحضارة، وإنما معيار التقدم والحضارة موافقة أولويات القرآن.
قبل أن نستطرد لحديث آخر .. دعونا نكمل نماذج أخرى من مغالطات الطوائف الفكرية:
- تحدثنا الطوائف الفكرية كذلك عن أن أهل السنة والمتبعين لمنهج السلف لايقبلون بالخلاف في مسائل الاجتهاد، ولا يرعون حق المخالف في المسائل الاجتهادية، وأن من لم يوافقهم على كل صغيرة وكبيرة فإنه سيتعرض لسلسلة مضايقات وتسلط، وأن فقه أهل السنة المعاصر يقوم على التنميط الكامل في كل المسائل ولا يرحب بالتفكير والاجتهاد، ويستعملون في توصيف هذا الواقع مصطلحات مثل أدلجة وقولبة وتنميط الخ، وبعد أن يصورون هذا الواقع الإسلامي بهذا الشكل يبدؤون في نقل نصوص بعض أئمة السلف في تفهم الخلاف في المسائل الاجتهادية .. الحقيقة أن القارئ لهذه الطوائف الفكرية لا يكاد يفكر بفحص هذه الدعوى، بسبب كثرة طرقهم لها بشكل مكثف ومستمر وبصيغ متنوعة ..
وقفت مرة مع نفسي وقلت لماذا لا أختبر صحة هذه الدعوى؟ لماذا نستسلم لهذا الطوائف الفكرية؟ لماذا تخلب ألبابنا جاذبية الأضواء السينمائية الفكرية التي يستعملونها في خطابهم فتغيب عقولنا عن تحليل صحة الدعاوى التي يطلقونها؟
وضعت هذه الصورة التي تنقلها الطوائف الفكرية جانباً، وعدت للخطاب الشرعي لأهل السنة أتأمل موقفه من الخلاف في المسائل الاجتهادية، فلما قلبت بحوث الفقهاء وطلبة العلم الشرعي وجدتهم لا تكاد توجد مسألة من مسائل الاجتهاد في الفقه الإسلامي المقارن إلا وقد اختلفوا فيها، وتناقشوا وتباحثوا ورجح كل واحد منهم ما رآه بنفوس ملؤها الحب والأخوة،
خذ مثلاً بعض أمثلة هذه المسائل:
التسمية عند الوضوء، بداية احتساب مدة المسح على الخفين، نجاسة الدم، الطهارة للطواف، الطهارة لمس المصحف، ومن طهرت قبل خروج أحد فرضي الجمع هل تصليهما جميعاً أم الأخير منهما؟، نهاية وقت العشاء بمنتصف الليل أم بدخول الفجر، المفاضلة بين الأذان والإمامة، وسجود السهو قبل السلام أو بعده، مسألة قصر المسافر إذا أقام إقامة مؤقتة، زكاة الحلي .. الخ هذه نماذج لمسائل تراثية، أما مسائل النوازل المعاصرة التي اختلف فيها فقهاء أهل السنة والمتبعون لمنهج السلف بكل رحابة صدر فهي - أيضاً- كثيرة ومنها: