للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال ابن أبي ليلى: "أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يُسأل عن شيء إلا ودّ أنّ أخاه كفاه".

وقال عطاء بن السائب: "أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم وإنه ليرعد".

وهكذا كان التابعون لهم بإحسان يعظمون شأن الفتيا والجرأة فيها ولهم في ذلك مواقف عظيمة:

- يقول نفيس بن الأشعث: "كان محمد بن سيرين إذا سئل عن شيء من فقه الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان".

- وقال داود: سألت الشعبي كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال: على الخبير وقعت كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه أفتهم فلا يزال حتى يرجع إلى الأول.

- وقال الشعبي والحسن البصري: "إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر"

- وقال يحيى بن سعيد: كان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي فتيا ولا يقول شيئاً إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني".

- وسئل الشعبي عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل له: ألا تستحي من قول لا أدري وأنت فقيه العراق، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: "سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا" (البقرة: من الآية٣٢).

- وسئل مالك عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة فغضب، وقال: "ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً" (المزمل:٥).

- وقال ابن المنكدر: "العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم".

- وقال ابن عيينة: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً".

- وقال مالك: "من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار كيف خلاصه ثم يجيب".

- وقال أبو حنيفة: "من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله لا يسأل عنه كيف أفتيت في دين الله فقد سهلت عليه نفسه ودينه".

- وكان أبو الحسن القابسي ليس شيء أشد عليه من الفتوى، وإنه قال عشيةً من العشايا: "ما ابتلي أحد بما ابتليت به أفتيت في عشر مسائل".

- وسئل مالك عن اثنتين وعشرين مسألة فما أجاب إلا في اثنتين بعد أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.

- وذكر الحافظ ابن عبد البر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وكان من الفقهاء أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه (أي: الجواب)، ثم قال القاسم رحمه الله: والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به.

هذا هو شأن الأئمة الربانيين الكبار الذين خافوا مقام ربهم واستعظموا الافتراء عليه والكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم فأكثروا من قول: لا أدري، مع أنهم أحق الناس بالفتيا وبيان الحق، ولكنه الورع والديانة وتعظيم الله وتعظيم حرماته.

أما زماننا اليوم، فكما قال أحد العلماء: "عظم أمر الفتوى وخطرها وقلّ أهلها ومن يخاف إثمها، وأقدم عليها الحمقى والجهال، ورضوا فيها القيل والقال، واغتروا بالإمهال والإهمال".

<<  <  ج: ص:  >  >>