كم تعاني بلاد المسلمين عامة من جرأة ليس لها مثيل على دين الله، فمقام الفتوى الذي هو مقام الأنبياء ومقام ورثتهم من العلماء تجرأ عليه الكثير من الحمقى والسفهاء، والصغار والكبار ومن لا عقل له ومن اغتر بعقله ومن لا دين له ومن اغتر بعبادته، حتى بعض المفكرين والصحفيين والإعلاميين والأدباء والشعراء والأطباء حتى أصبح مقام الفتوى مهنة من لا مهنة له، بل للأسف حتى الفساق والسخفاء من المغنين والمغنيات والمهرجين والمهرجات تناقلت وسائل الإعلام فتاواهم وكذبهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فهل بعد هذا العبث من عبث بمقام الفتوى؟!
لقد عانت وتعاني أمة الإسلام من الحكم بغير ما أنزل الله وتضييع الحدود والتعدي على المحارم والأخلاق وإهدار الدماء وإزهاق الأرواح بغير حق كل ذلك وغيره كثير كان من أعظم أسبابه أن الذين استباحوا محارم الله وتعدوا حدوده كانوا قد استباحوا مقام العلماء الربانيين ومقام الفتوى، بل إنهم سفهوا العلماء وقدحوا فيهم وردوا عليهم فتاواهم ولم يأبهوا بها فانفرط بذلك عِقد الفتوى، وانفلت على إثره زمام الأمن والأخلاق والاقتصاد وضاقت على الناس معايشهم واختلط الحق بالباطل والحابل بالنابل حتى لم يعد للفتوى مقام يحترم، فأصبح كثير من العامة والخاصة لا يقيمون لفتوى العالم ولا للجهة العلمية وزناً، وأصبح لكل قناة إعلامية ولكل صحيفة سيارة مفتوها.
وكثر المبطلون المطبلون بغير علم ولا ورع حتى أصبحتَ تسمع وترى كثيراً من الناس وهو متحيرٌ لا يدري من يسأل ولا لمن يسمع في أمر دينه وفي الحلال والحرام.
وأصبحت سقطات العلماء وزلاتهم ديناً متبعاً، وأصبح تتبع الرخص ومتابعة المميعين لأوامر الشريعة الواضحة البينة موضةً وسبقاً إعلامياً تتسابق إليه وسائل الإعلام لتضرب أقوال العلماء بعضها ببعض حتى اختلطت الأمور على الناس، وتساهل البعض في محارم الله وحرماته، واستسهلوا الوقوع في المحرمات والتلبس بها بحجة أن فلاناً يقول كذا وفلاناً يبيح كذا.
إن هذا العبث الذي نشاهده اليوم في شأن الفتوى سوغ لكثير من الناس التساهل في أن يطلق لسانه بالفتوى وهو لا يشعر، فكم نسمع في مجالسنا من عوام الناس من يقول هذا حلال وهذا حرام، وما هذه الجرأة على الله وعلى دينه إلا لأن مقام الفتوى انتهك ولم يعد له حرمته كما كان في سلف الأمة.
إن هذا المقام الرفيع قد انتهكه أصناف من الناس يفترون على الله الكذب علموا أم لم يعلموا، ومن هذه الأصناف وأولها وأعظمها خطراً:
علماء السوء الذين لهم حظ من العلم لكن لا حظ لهم من الورع والدين والخوف من الله، فهم مفتون مفتونون غرتهم الدنيا، فنبذوا العلم وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فشابهوا اليهود الذين بدلوا دين الله وكذبوا على الله وهم يعلمون، فزينوا للظالم ظلمه ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم من قول الحق أو الكف عن قول الباطل فاغتر بهم العامة والخاصة، واختلت بسببهم معالم الشريعة وانحرفت بسببهم أفهام الناس، فهؤلاء وإن اغتر بهم بعض العامة وتزينوا بزيّ العلماء ولبسوا عمائمهم إلا أنهم ممقوتون عند الله متوعدون بالعذاب الأليم إن لم يتداركهم الله برحمته.
وصنف آخر من هؤلاء المفتين المفتونين هم بعض صغار طلاب العلم ممن أوتوا شبراً أو شبرين من العلم ولم يؤتوا إيماناً فتاهوا وأعجبتهم أنفسهم بسبب تقدير العامة لهم، فأعطوا لأنفسهم الحق في الفتيا، وتجرؤوا عليها شيئاً فشيئاً حتى أصبحت شهوة للنفس لا يستطيعون الفكاك عنها، والسبب في زيغانهم أنهم تعلموا العلم قبل الإيمان.