١ - الحس مصدر مقر من مصادر التصور, والتصورات الناشئة عن الحس هي أقوى التصورات على الإطلاق ولذلك كان استخدام القرآن الكريم للتصورات الحسية كثيرا كمقدمات صغرى وكبرى للوصول إلى نتائج عقلية كما في قوله تعالى من سورة الغاشية: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إلى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإلى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإلى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإلى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠)}.
فالإبل وخلقها والسماء ورفعها والجبال ونصبها والأرض وتسطيحها, كلها تصورات مصدرها الحسّ, ولم يمنع ذلك أن تكون النسبة العقلية بينها طريقًا للوصول إلى نتيجة غيبيَّة.
إلا أن الحس يبقى عاجزًا عن رصد كثير من التصورات التي يحتاج الإنسان إلى الحكم عليها لحياته العامة الاجتماعية أو لتسيير حركته العلمية أو البرهنة على قناعاته الدينية, وهذا العجز حاول القدماء التخلص منه بطرق منها اعتبار التواتر المعنوي قائمًا مقام الحسّ، كتصور المدن النائية أو الشخوص التاريخية القديمة, وهو حل لم ينكره القرآن بل أقره، وذلك في مثل قوله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} (العنكبوت: ٣٨) فالأمم السابقة كعاد وثمود كانت معروفة عند العرب بطريق التواتر المعنوي، وأقر الله هذه المعرفة وبنى سبحانه وتعالى خطابه عليها: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} (السجدة: ٢٦).
٢ - الفطرة وهي وإن كانت التصورات المنبعثة عنها أقل بكثير مما ينتج عن المصادر الأخرى إلا أنها تدل على أعظم مدلول وهو الله، كما تدل على نسبة الخلق إليه سبحانه وتعالى، ونفي الشريك عنه فهي تدل على الله تعالى تصورًا وتصديقًا، وهذا مدلول قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف: ١٧٢) أما ما سوى ذلك من مدلولات فمن الفلاسفة المثبتين للفطرة من يثبتها ومنهم من ينكرها.
٣ - الوحي وهو مصدر يكاد يكون وحيدًا لتصورات مفردات عالم الغيب كالملائكة والجن والشياطين والجنة والنار والحوض والصراط ونعيم القبر وعذابه، وبذلك يكون مصدرًا وحيدًا أيضًا لما يتعلق بها من تصديقات.
وهو أيضًا مصدر وحيد لتصور مفردات الدين كالصلاة والصوم والزكاة والحج، وهو أيضًا مصدر وحيد للتصديقات الناشئة عن نسبتها إلى بعضها.
٤ - خبر الموثوق: وهو مصدر صحيح للتصورات شريطة أن يكون الموثوق منطلقًا في نقله عن أحد مصادر التصور الصحية المتقدمة.
ومن الطبيعي أن نسأل عن العقل: أليس هو أيضًا مصدرًا من مصادر التصورات؟
والجواب: قد يتبادر إلى الذهن أن التصور هو عملية عقلية صرفة، وهذا حق، لكن التصورات موجودة في الخارج والتعرف عليها يتم بالطرق الأربع المتقدمة, وليس للعقل قدرة على استحداث تصورات من تلقاء نفسه، وإنما هو ذاكرة لتلك التصورات التي يتعرف عليها العقل بطريق الحس أو الوحي أو الخبر المتواتر أو خبر الموثوق.
نعم أن بمقدوره تكوين الصورة بطريق التذكر أو بطريق التركيب أو بطريق الانتزاع والتخيل, بل إن العقل هو الوسيلة الأولى للربط بين المتصورات لإحداث النسبة التي ينتج عنها التصديق، كما أنه الفاعل الأقوى أيضًا في الربط بين التصديقان للحصول على الفكرة أو مجموعة الأفكار.