كل ذلك صحيح لكنه لا يعني أنه مصدر من مصادر التصور بل هو الآلة الوحيدة لحفظها والتحكم فيها.
ومن أسباب الاضطراب الفكري اعتبار العقل مصدرًا للتصورات، فإننا نجد أن هناك فئة تقيم تصديقاتها على تصورات مصدرها العقل، والحقيقة أن كل تصور مصدره العقل: ليس له وجود خارجي حقيقي فهو إما متخيل وإما موهوم, وبما أن التصديقات - ومن ثم الأفكار - تعد التصورات هي لبناتها, فإن كل تصديق مبني على تصور موهوم أو متخيل لا يمكن أن ينتج عنها أفكار متزنة.
مثال ذلك: العنقاء, طائر خيالي, وحل الأكل أو حرمته حكمان شرعيان, فحين أجمع بين هذين التصورين العنقاء وحكم الحل أو العنقاء وحكم الحرمة فإنني أخرج بتصديق فاسد وهو حل لحم العنقاء أو حرمته.
٣ من ٦
" العقل" الطريق الأول لإحداث النسبة بين التصورات
بعد استعراضنا لـ"مفهوم التوازن الفكري"، و"آلياته", نستعرض في هذا المقال "الطرق الصحيحة لإحداث النسبة بين التصورات"؛ وهي العقل, والوحي المُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بنوعيه.
واختياري للعقل باعتباره الطريق الأول, ليس تقديمي للعقل هنا على اعتبار أنّه أوثق الطرق للحصول على التصديقات, بل لأنّه يمثل المجهود الذهني البشري الصرف, وإلا فإنّ العقل يُعرضنا كثيرًا للخطأ في إحداث التصديقات، وذلك حين يقوم بنسبة الأحكام إلى تصورات مُتخيلة كما قدمنا في مثال العنقاء, أو موهومة كالخوف من الغول, أو حينما يُخطئ العقل في إجراء النسبة بين التصورات كالحكم بأنّ الملتحي متطرف, أو الحليق غير متدين، بناء على تصور قاصر للملتحي والحليق، وتصور قاصر للتطرف والتدين.
فالتصورات القاصرة هي عبارة عن مقدمات خطأ, والمقدمة الخطأ لا يمكن أن تكون نتيجتها صحيحة أبدًا حتى لو توافقت مع الصواب, لأنّ كل نتيجة متعلقة بمقدماتها حتمًا, فإذا توافقت النتيجة ذات المقدمات الخاطئة مع الصواب فإنّها لا يمكن أن تكون صوابًا لأنها ستكون مرتبطة بمقدماتها ارتباط الفرع بالأصل, كما أنّ النتيجة الصواب الناشئة عن مقدمات صحيحة مرتبطة بمقدمتها على النحو ذاته فقولنا على وجه المثال: محمد رجل عربي والعرب صادقون فمحمد صادق, فصدق محمد صلى الله عليه وسلم عند هذا القائل إنما هو باعتباره عربيًا, وهي نتيجة كاذبة ولو كانت تشبه الحقيقة من حيث الظاهر.
أما قولنا: محمد رسول الله، ورسل الله صادقون فمحمد صادق, فهو قول يحكم بالصدق لمحمد صلى الله عليه وسلم باعتباره رسولاً، وهي النتيجة المطابقة للصواب لابتنائها على مقدمات صحيحة.
والأخطاء في نسبة التصورات إلى بعضها قد تكون لقصور في التصور كما في الأمثلة المتقدمة, أو لاستنتاجات كلية أو أغلبية من مقدمات جزئية, وكذلك استنتاجات جزئية بناء على مقدمات كلية أو أغلبية، فالأول كالحكم بأنّ ركوب الطائرة مغامرة بناء على حالة أو حالات من الخطر, والآخر كالحكم بأنّ السم غير قاتل لنجاة حالة أو حالات من خطره.
مع أنّ الحكم الكلي والأغلبي له طرق لابد من التوصل إليه عبرها, ومنها: