للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن هذه الحالة والمحنة التي يعيشها هذا الخطاب تشابه إلى درجة كبيرة حالة المتكلمين الذين عظموا العقل (وأهمية العقل لا تخفى!!) كما عظم هؤلاء الحرية، ثم زعموا أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا بالنظر العقلي، ولا يتحقق النظر إلا بدليل حدوث الأجسام، تماما كما قال هذا الخطاب أن الحرية لا تتحقق إلا بالديمقراطية، فالمتكلمون جعلوا دليل حدوث الأجسام هو العقل الذي يعارضون به النصوص، والخطاب المدني جعل الديمقراطية هي الحرية يعارضون بها الشرع فيما يظنون انه يقيد الحرية، والطائفتان قدمت ما تعظمه على التوحيد، وجعلته أول واجب على المكلف.

إن الحرية وحدها لا تتضمن طاعة إلاّ إذا قصد الإنسان بها وجه الله تعالى، وهذا مفترق الطرق بين الخطاب المدني الدنيوي، والخطاب الديني التعبدي، وبدون هذا القصد فإنه لا يوجد فرق بين الشخصيات المسلمة وغير المسلمة، فشخصية ثائرة مثل غيفارا كان يشدوا الحرية، وكذلك ثوار الثورة الفرنسية ولكنها حرية مدنية ديمقراطية مشركة مهما حققت من المصالح الدنيوية، ولهذا ما لم يمحص هذا الخطاب منطلقه ويراجع مرجعيته وينفذها في الواقع ويستعمل المفاهيم والمصطلحات الشرعية فإنه سيظل سائراً في طريق العلمنة مهما زعم أنه ذو مرجعية إسلامية، فالدعاوى لا بد لها من إثبات، وإثباتها يتبين من خلال الكلام التفصيلي، فبعض الحكومات العربية تدعي أنها ديمقراطية ولم يقبل هذا الخطاب دعواها.

لقد حوّل هذا الخطاب الحرية والمدنية من وسيلة لتحقيق المقاصد التعبدية إلى غاية في ذاتها، بل جعلوا لها الأولوية على العقيدة والتوحيد، ولهذا أصبح بعض الإخوة يهيم بالحرية أيّاً كان مقصدها وهدفها فتجد الإشادة والإعجاب والفرح بأحرار فرنسا وحركة التنوير فلا تفارقهم عبارات فولتير وغيره من ملاحدة الثورة الفرنسية، بل تجاوزوها إلى أقوال غيفارا والزعماء الشيوعيين، بل ربما يتمنى الموت في سبيل الحرية!!.

إن القارئ لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سوف يجد أن الغاية من الوجود الإنساني على الأرض هو التعبد لله بمعناه الشامل، وكل ما يتعلق بالبناء الدنيوي بكل أشكاله هو وسيلة لتحقيق هذه الغاية، ولهذا قارن الله تعالى بينهما في قوله: " يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"، وتعظيم المدنية على حساب الدين لم يكن هذا الخطاب هو السابق له، فقد سبقت المدرسة العصرانية له من فترة طويلة، وأذكر أني قرأت لكاتب إسلامي يقول كيف يجوز أن نعتقد أن أديسون المخترع للكهرباء ونفع الإنسانية سوف يدخل النار لأنه لم يسلم، وفلاح مصري أحمق يدخل الجنة لأنه مسلم، فهذا الكاتب الإسلامي!! لم يدرك عقله ذلك لأن ميزان الأولويات في ذهنه مختل، وعلى كتب هؤلاء يعتمد بعض كتاب الخطاب المدني الديمقراطي.

إنني ناصح لهؤلاء الإخوة أن يراجعوا أفكارهم، وأن لا تنسيهم السكرة خطورة الفكرة، وأن يتجاوزوا المراهقة والاستفزاز، وأن يعلموا أن المحافظة على حقائق الدين أهم من أي مكاسب مظنونة فهي المكسب الأعلى، وأن يبحثوا المسائل بطريقة شرعية سليمة، واذا كانوا لا يمتلكون أدوات البحث الشرعي فإن السكوت خير لهم من النطق الآثم.

إنني أتعجب من هؤلاء الإخوة الذين يتكلمون عن النهضة وسننها الكونية ثم يمارسون دوراً سلبياً في الساحة لن يحقق إلا الاستفزاز والصخب الذي يزول دون أي أثر نهضوي.

فما يقومون به من استفزاز ونقد سلبي لن يوصل إلى نهضة أو حرية أو ديمقراطية بل يكرس التفرق والفوضى والمخالفة للأحكام الشرعية، والكلام في الدين بغير علم، ونحو ذلك من السلبيات.

الغريب حقاً أنهم يسعون إلى التقارب مع التيارات الفكرية الأخرى بحجة الوحدة الوطنية في الوقت الذي يكرسون التفرق والاختلاف مع المنهج السلفي الأقوى علما، ً ودعوة، وصدقاً بالأفكار المخالفة للشرع، والأساليب البعيدة عن روح النصح.

<<  <  ج: ص:  >  >>