١ - أن الديمقراطية رسَّخت حُكْمَ الأقلية - تحت اسم خيار الشعب - فخالف التطبيق على الأرض التنظير المقرر في الكتب، وذلك أن قلة من محترفي السياسة هي التي تضطلع بالمهمة في واقع الأمر، والشعبُ - الذي ادعوا أنه يحكم - بعيدا عن سُدَّة الحكم، وإنما مهمته التوجه لصناديق الاقتراع مرة كل عدد من السنين، ليضفي ما يسمونه الشرعية على حكم هذه الأقلية، ومن هنا ركَّز ناقدو الديمقراطية في الغرب على حقيقة بالغة الغرابة، هي أن الديمقراطية أشبه ما تكون بالشيء الخيالي، والأمر الموهوم البعيد عن الواقع، وعليه فلا تعجب إذا علمت أن نسبة كبيرة تبلغ ثلث المحرِّرين الغربيين لا يقبلون الديمقراطية أصلاً، فضلاً عن الترويج لها في كتاباتهم! لأن الديمقراطية إنما استمدت قوتها من تلك المفردات التي جذبت إليها كثيراً من الأنصار، كمفردة الكرامة الإنسانية وضمان الحقوق ونحوهما، لكن الواقع التطبيقي قد أثبت انتهاكات شديدة لهذه المفردات على يد الديمقراطية نفسها، كما سترى في الفقرتين الآتيتين إن شاء الله.
٢ - من أهم ما وُجِّه للديمقراطية من النقد ذلك الواقع الفاسد الذي خلَّفته، من جهة أن كل شيء في ظل الحكم الديمقراطي أصبح ممكن الشراء، سواء المناصب السياسية أو القرارات السياسية، أو الدعم الخارجي لِقُوى يكون دعمها على حساب الجبهة الداخلية، بل وصل الأمر إلى إثارة حروب طاحنة لا هدف لها، إلا مجرد التسويق لمنتجات شركات الأسلحة، ومثله التغاضي عن النشاطات المدمِّرة للبيئة من قِبَل شركات الطاقة، ونقل صاحب البحث نموذج ذلك عن (جريج بالاست) صاحب كتاب (أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها)، حيث أوضح أنه رغم حظر القانون الأمريكي على الشركات دفع أموال لمساندة الحملات الانتخابية، إلا أن الواقع كان بخلاف هذا تماماً، حيث دعمت شركات الطاقة حملة الرئيس الأمريكي السابق، مقابل ألا تتعقب حكومته أنشطتها المدمرة للبيئة، لأن هذه الشركات تستخدم - حسب تعبير صاحب الكتاب - «أقذر وقود» مما أدى إلى نشر الأمراض وقتل الأطفال في المناطق المحيطة بتلك الشركات، أو بمناطق دفن نفاياتها الكيمائية الخطيرة، وذلك نموذج واحد من بين نماذج كثيرة تدل على حقيقة انتهاك الكرامة البشرية والحقوق الإنسانية في المعقل الأكبر للديمقراطية!
٣ - وجود آثار مدمرة لتطبيق الديمقراطية تتعلق بالجوانب الاقتصادية التي عليها مدار اهتمام أولئك القوم، وقد أعطى (جريج بالاست) إحصائية مَهُولة من خلال التركيز على النمو في أمريكا بين عامي ١٩٨٣ - ١٩٩٧م ففي هذه الحقبة الزمنية الطويلة اتضح أن (٨٥.٥%) من نسبة النمو قد استولى عليها أغنى الأمريكيين، ويُمثِّلون نسبة (١%) فقط، ورغم ارتفاع الدخل ذلك الوقت إلا أن (٨٠%) من العائلات الأمريكية لم تتلق منه شيئاً، بينما ربحت (طبقة الواحد في المائة)(٢.٩ ترليون) من أصل (٣.٥ ترليون) دولار، فاتضح بذلك أخي القارئ حقيقة نكبة الشعب بالديمقراطية التي سموها حكم الشعب، واتضح معنى كون الديمقراطية تُرسِّخ حكم الأقلية وتُغلِّب مصالحها على حساب الشعب المستغفل الذي أوهموه بأنه يحكم، وقد خلص صاحب بحث (النقد الغربي) إلى نتيجة كبيرة الأهمية، وهي أن الواقع الغربي قد لفظ الديمقراطية، بسبب المشكلات الشائكة التي ترتبت على تطبيقها، فإن الديمقراطية قد وُجدت في الواقع الغربي لظروف تاريخية معيَّنة، ثم صار واقع الغرب المعاصر يتنكر لها الآن بعد اختلاف هذا الواقع في طبيعته وخصائصه عن ذلك الواقع الذي أفرزها.