والبحث رغم قلة أوراقه قد مُلِئ بعدة مقولات للمفكرين الغربيين الناقدين للديمقراطية، مصحوباً بوقائع وإحصائيات ذات مدلول مخيف، يدعو بعضها إلى الذهول، بل إلى الاشمئزاز.
فهذا جانب من حقيقة الديمقراطية في الغرب، من الناحية التنظيرية ومن الناحية الواقعية يثبت للمنصف أنها في سبيلها إلى أن تبلى وتضمحل هناك، ولاسيما مع تنامي الهزات الاقتصادية الشديدة بين الحين والآخر، ولهذا طرح خصوم الديمقراطية في الغرب سؤالاً محرجاً لأنصارها، وهو أن الشعب - في ظل فشل الديمقراطية - لو قرر بأكثريته أن يتخلى عن الديمقراطية، فهل سيُطبَّق خيار الشعب الذي تدعي الديمقراطية أن الحكم راجع إليه، أم ستنقلب الديمقراطية على الشعب وتلزم الأكثرية بالخيار الذي لا يريد؟ وعلى كلا التقديرين فالديمقراطية بين أمرين أحلاهما مُرٌّ، ومع كل هذه الوقائع المزلزلة في الغرب فالمبشرون بالديمقراطية في المشرق الإسلامي لا يزالون إلى اليوم يهتفون بها، كأنما عثروا على كنز لم يُسبَقُوا إليه، بما سيورطون به الأمة في البدء من حيث فشل الآخرون، وتلك حالة مزرية لهم تكررت مع أفكار ونظريات سقطت في معاقلها، لكنهم أبوا إلا مناصرتها في مشرقنا، وإن دخلت في بلدانها ضمن خبر (كان).
ولا تعجب أخي القارئ من مصادمة هؤلاء للحقيقة، فإن المكابرة وصلت بصاحب كتاب (التراث والتجديد ص٦٩) حدّاً زعم فيه أن العلمانية البغيضة هي أساس الوحي، وأن الوحي علماني في جوهره!
فإذا ادعى أن وحي الله العظيم ليس إلا علمانياً في جوهره فماذا أبقى من منابذة الحقيقة ومجانبتها؟ وقد علم من له اهتمام ولو محدود بالعلمانية أنها - كما ينص معجم أكسفورد - عقيدة قائمة على استبعاد أي اعتبار مستمد من الإيمان بالإله أو الحياة الآخرة، كما أنها تقرر أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية.
ومع ذلك يصل الاستخفاف بعقول الناس حدّاً يدعي فيه صاحب التجديد المصطنع أن العلمانية العازلة للدين عن الحياة هي أساس هذا الوحي، الذي نزل لجعل الحياة كلها قائمة على أحكام الشرع بإجماع المسلمين وهذا الاستخفاف بالحقائق لا يرفضه من له أدنى غيرة على الإسلام فحسب، بل يرفضه حتى العلماني الذي يؤمن بمبدئه هذا، مما يؤكد على شدة استغفال عدد من الكُتَّاب لقرائهم وبلوغهم في الاستخفاف بهم مبلغاً عاملوهم معه معاملة لا تليق بالإنسان، من حيث هو إنسان.
واللهُ يعلم أن هذا الخلط الفوضوي للإسلام بتيارات التيه الوافدة لا يمكن أن يخفى على ذي وعي بشموخ هذا الدين وعظمته، وأن من المحال الذي لا يقبل الرفع أن تُخلط فوضى التائهين الشرقيين أو الغربيين بدين الله ذي المصادر المضبوطة والنصوص المحفوظة، سواء تَسمَّت هذه التيارات باسم الديمقراطية أو الليبرالية أو الاشتراكية أو أي اسم في الطريق لم يصل بعد، وسواء تبنَّى هذا الخلط أفراد أو مجموعات تتحايل على شباب الأمة وشاباتها لإقناعهم بقبول الزيف في ثوب إسلامي، فإن دين الله أرفع وأسمى مما يظنون، وقد قيَّض الله لهم على الدوام من يكشف زيفهم، حفظاً لدين ارتضاه تعالى لبني الإنسان أجمعين، ولئن وُجِد في ديانات أخرى خلط وتسيُّب وصل إلى حد وجود (قس ملحد) يمارس عمله الوعظي في الكنيسة الهولندية! فإن دين الإسلام أعصى على المتسيبين مما يظنون، ولا يلين لهم:(حتى يلين لضِرْس الماضِغ الحَجَر)، إذ كيف يُخلَط دين ينص كتابه العظيم على جعل المحيا بل والممات لله رب العالمين بتيارات تقرر في أول ما تقرر وجوب عزل هذا الدين بالكُليَّة عن الحياة!