خذ مقارنة تاريخية أخرى: كان جناحا الصحوة الإسلامية في حقبة التسعينات هما (العودة والحوالي)، والعودة من نجد (وبشكل أخص من القصيم)، والحوالي غامدي من منطقة الجنوب، وحين خرجا من مرحلة الاعتقال بدأ العودة في تدشين خطاب ديني جديد، ومع ذلك كله فقد رأينا كيف انسحب السلفيون عن العودة، حتى أن الدكتور العودة وضعهم في خانة الأعداء وكتب كتابه الأخير (شكراً أيها الأعداء)، وانجفلوا يتفانون في توقير الشيخ الحوالي، وهذا ليس خارج نجد، بل السلفيون في منطقة القصيم يجعلون الشيخ سفر رمز الصمود العقدي والدكتور سلمان رمز التراجع، فكيف بالله عليكم توصم الصحوة المسكينة بأنها إقليمية؟ أي جور أكثر من هذا الجور؟! (والحق أن الشيخ سفر الحوالي باقعة في الاطلاع على المذاهب العقدية والفكرية، مع دقته المنهجية).
وحتى لو تأملت -أيضاً- في الكتب فمن أوسع كتب العقيدة وأجمعها ومن أكثرها حفاوة بين المتخصصين العقديين كتاب "معارج القبول" للشيخ العلامة حافظ الحكمي (وهو من منطقة جيزان) وهو مفخرة جازان بكل صراحة، فانظر كيف يتلقى شباب نجد والحجاز "العقيدة" من علم من أعلام جازان، ويستشهدون بنقوله. وكذلك أهم مصدر اتكأ عليه الإسلاميون منهجياً في معركة الحداثة محاضرات الشيخ سعيد بن ناصر الغامدي ثم كتاب الشيخ عوض القرني (وكلاهما من منطقة الجنوب)، بل لم يتشكل تصور الإسلاميين عن الحداثة إلا من طريقهما.
على أية حال .. لو ذهبت أستقصي الرموز الشرعية والدعوية والفكرية والتربوية من مناطق المملكة، ومن خارج المملكة، وكيف يتنافس شباب الصحوة الإسلامية في توقيرهم على أساس مراتبهم في العلم والديانة لما انتهيت، وآخر مايعني شباب الصحوة الإسلامية هو النسب والمنطقة والإقليم، ولكني فقط أردت التمثيل، وأجزم لو أن القارئ الآن أخذ يتذكر أسماء المتصدرين للفتيا وتدريس العلوم الشرعية والدعوة والتربية لرأى التنوع الذي يكشف أن الإسلاميين ولله الحمد هم أنضج شرائح المجتمع في التعالي على هذه المعايير الجاهلية.
بل إننا نتعبد الله جل وعلا بأن البنجلاديشي الذي يوحد الله أنه أحق بموالاتنا وتوقيرنا من سعودي يستغيث بالحسين.
أعتذر على هذه الصراحة في ذكر الخلفيات المناطقية لكن ضرورة معالجة هذه التهمة التي يتهامس بها البعض أحياناً، ويصرح بها البعض في أحيان أخرى، ويعول عليها بعض الفاشلين علمياً أو منهجياً؛ اقتضى مني أن أكون صريحاً في هذا العرض.
حسناً .. أعرف أن البعض يقول: أنا أتذكر قصة وقعت هنا أو هناك قال فيها شيخ ما عبارة يفهم منها المناطقية والإقليمية ونحو ذلك؟ فالجواب أن إطلاق الحكم على الصحوة الإسلامية بأنها قطرية أو إقليمية أو غير ذلك يحتاج النظر إلى الظاهرة العامة وليس إلى حالات فردية، فإننا نحن نعلم أن بعض المنتسبين إلى العلم يقع في شهوة رياء أو شهوة مال أو شهوة تتبع للرخص فهل يصح أن نطلق على الظاهرة الشرعية والدعوية بأنها مرائية أو متساهلة في الفتيا بسبب هذه الحالات الفردية؟
بل خذ مثالاً أكثر دلالة من ذلك: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أكمل تجربة بشرية عرفها التاريخ، وقع من بعضهم هنات في التنادي بدعوى الجاهلية، فهل يصح القول بأن الصحابة إقليميون أو عرقيون أو إثنيون بمثل ذلك؟ أم أن العبرة بالظاهرة العامة؟!
وأعرف -أيضاً- أن البعض يحتج بمناصب معينة أعطيت بناءً على توزانات مناطقية، ولكن هذه ليست مسؤولية الصحوة الإسلامية، بل هذه يسأل عنها السياسي الذي يراعي هذه التوازنات المناطقية ويحسب لها حسابات خاصة.
والمراد أن المعايير التي يتعامل بها الإسلاميون (كظاهرة) في تقييم الأشخاص والكتب أنها مبنية على التفاوت في العلم والديانة، وليس بناء على القطر والإقليم والنسب كما يزعم المتجنون على هذه الصحوة الإسلامية.