للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الانحراف بجعل الخلاف في منزلة الدليل الذي أخذ يستشرى اليوم بين بعض المتفقهة، ليس انحرافاً جديداً؛ بل قد نبّه إلى خطورته ومنافاته للشريعة الربانية، عدد من المحققين من أهل العلم؛ فقد قال العلامة الباجي المالكي رحمه الله منكراً تكرر مثل هذا الانحراف لدى المستفتِين بسبب ضعف إنكاره: " وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها: لعلّ فيها رواية؟ أو لعلّ فيها رخصة؟ وهم يرون أنَّ هذا من الأمور الشائعة الجائزة! ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي؛ وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتدّ به في الإجماع أنَّه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحلّ لأحدٍ أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنَّه حقّ، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، وإنَّما المفتي مخبر عن الله في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنّه حكَم به وأوجبه، والله تعالى يقول: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) المائدة ٤٩. فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي! أو يفتي زيداً بما لا يفتي به عمراً لصداقة بينهما، أو غير ذلك من الأغراض؟! " (١).

وقال العلامة الشاطبي رحمه الله، في فصل عقده في الموضوع بعد تعقيبه على كلام الباجي: " وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حُجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان: الاعتمادُ في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم! لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإنَّ له نظراً آخر، بل في غير ذلك، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لِمَ تمنع؟ والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حُجَّة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها، لا لدليل يدلّ على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع؛ وهو عين الخطأ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمدٍ معتمداً، وما ليس بحجّة حجّة " (٢). ثم أورد نقلاً عن الخطابي جاء فيه: " وليس الاختلاف حُجّة. وبيان السنّة حُجّةٌ على المختلفين [يعني فيما أورده من المسائل التي اختلف فيها] من الأولين والآخرين " ثم قال الشاطبي رحمه الله: " والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ به عن نفسه؛ فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتّباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه " (٣).

وقال الشاطبي رحمه الله مبيناً بعض دعاوى هؤلاء: ((ويقول: إن الاختلاف رحمة، وربما صرّح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر، أو الذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجَّرت واسعاً، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كلّه، وجهل بما وضعت له الشريعة، والتوفيق بيد الله " (٤)

وقد قسّم رحمه الله الآخذين بهذا المنهج المنحرف إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الحاكم به، والثاني: المفتي به، والثالث: المقلّد العامل بما أفتاه به المفتي. ثم بين حكم كل قسم إذ قال: " أمَّا الأول؛ فلا يصح على الإطلاق؛ لأنَّه كان متخيراً بلا دليل، لم يكن أحد الخصمين بالحكم أولى من الآخر، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي


(١) نقلاً عن الشاطبي في الموافقات:٥/ ٩٠ - ٩١.
(٢) الموافقات: ٥/ ٩٢ - ٩٣.
(٣) الموافقات: ٥/ ٩٣ - ٩٤.
(٤) الموافقات:٥/ ٩٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>