وأمَّا الثاني؛ فإنَّه إذا أفتى بالقولين معاً على التخيير فقد أفتى في النازلة على الإباحة، وإطلاق العنان، وهو قول ثالث خارج عن القولين، وهذا لا يجوز إن لم يكن يبلغ درجة الاجتهاد بالاتفاق، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقتٍ واحد ونازلة واحدة أيضاً حسبما بسطه أهل الأصول.
وأيضاً؛ فإنَّ المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه، فكما لا يجوز للحاكم التخيير، كذلك هذا.
وأمَّا إن كان عاميَّاً؛ فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه، واتّباع الهوى عين مخالفة الشرع، ولأنَّ العامي إنَّما حكَّم العالِمَ على نفسه، ليخرج عن اتّباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب؛ فإنَّ العبد في تقلباته دائر بين لَمَّتين: لمّة ملَك، ولمّة شيطان؛ فهو مخيّر بحكم الابتلاء في الميل إلى أحد الجانبين، وقد قال تعالى:(ونفسٍ وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها)(إنَّا هديناه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كفورا)(وهدينه النجدين)
ثمة قضية أخرى ينبغي مراعاتها في هذا الموضوع، حتى لا تختلط به؛ وهي الفرق بين الطرائق الشرعية في الفتوى، التي يسلكها المفتي الناصح، مراعياً فهمه للوقائع الخاطئة وطبيعة انتشارها، والآليات التي تؤدي إلى الحكم الصحيح؛ وأعني بذلك فقه التدرج في التطبيق، لا التدرج في التشريع، إذ إن التدرج في التشريع قد انتهى زمنه بانقطاع الوحي، فالحلال حلال والحرام حرام منذ نزل به الوحي، إلا أنَّ الحرام قد يحتاج إلى تدرج في سبيل الخلاص منه، كالفتوى لمن ابتلي بالتدخين بأن يقلل منه في بداية عزمه على التخلص منه، حتى لا يثقل عليه تركه، فيفشل في تركه والانقطاع عنه؛ فهذه السبيل في الفتوى تبقي المحرم محرما، وتسعى في الخلاص منه بالتدرج في التخلي عنه، لسبب يخص المسألة محلّ الفتوى؛ ويشهد للتدرج في التطبيق: نصوص التدرج في التشريع، مع بقية أدلة الأمر بالمستطاع من مثل قول الله تعالى:(فاتقوا الله ما استطعتم)، ومن السنة من مثل قول النبي - عليه الصلاة والسلام - في الصحيح:(دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
نسأل الله تعالى الثبات على الحق، مهما خالفه الخلق ..
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وآله.