ولا بد لنا أن نفرق بوضوح بين تلك التنوعات فمن المتحتم أن نفرق بين الناقد من الداخل، وبين الناقد من الخارج، وبين الناقد المناوئ، وبين الناقد المحب الصادق ولو كان من الخارج وبين الناقد الباحث عن الحقيقة والناقد الهاوي التابع للموضة فليس كل من نقد الخطاب السلفي يلزم بالضرورة أن يكون مناوئا أو معاديًا أو حاسدًا أو عميلا أو خارجًا عن الخطاب أو متأثرًا بالمعادي أو مستسلمًا لضغوط الواقع أو قليل الديانة أو له مقاصد ومآرب خفية فهذه المعاني ليست ملازمة لكل نقد موجَّه إلى الخطاب السلفي.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه ليس عدلاً ولا حقًّا أن نأتي إلى كل من مارس النقد للخطاب السلفي، ونجمعهم في سلة واحدة، ونحشرهم في خندق واحد ونصدر عليهم أحكامًا متَّحدة أو حتى متقاربة.
وحين نقرر هذا الكلام لا نريد أن نصل إلى نفي أن يكون في قائمة النقاد من هو حاقد على الخطاب السلفي، أو مناوئ له، أو من يريد تصفية حسابات سابقة ولا نريد أن ننفي وجود من لديه مشكلة مع النص الشرعي نفسه ولكن غاية ما نربوا إليه الوصول إلى رؤية واضحة في التفريق بين أصناف المحتجين على الخطاب السلفي.
ومن السمات التي اتسمت بها ظاهرة النقد للخطاب السلفي: التنوع في مجالات النقد والتعدد في موضوعات الاحتجاج فقد توسعت ساحة النقد حتى شملت قطاعات واسعة من الأفكار التي يتبناها الخطاب السلفي فاندرج في قائمة التهم مسائل عقدية وفقهية وأصولية وسلوكية وتربوية وسياسية واجتماعية وغيرها.
وقد أثارت تلك الموجة النقادة حراكًا فكريًّا عارمًا في الساحة الداخلية أدت إلى ترتيب الصفوف، وتجميع المشجعين، وحدوث معارك صاخبة لا تسمع فيها إلا الضجيج حتى إن بعض المتابعين من الخارج وصف تلك الحالة بالمراهقة الفكرية وتناولت أقلام عديدة تلك الظاهرة بالتحليل والتفكيك، وخاضت فيها من جهات متنوعة: من جهة البحث في أسبابها وعللها ومن جهة تحديد أصناف الممارسين لذلك النقد وتحديد هويتهم ومن جهة الموقف من تَقَبّل ما وجِّه من احتجاج وبيان قيمته المعرفية ومن جهة استشراف مآلات وأبعاد ذلك النقد.
والمراقب المنصف يدرك بوضوح أن قدرًا كبيرًا من تلك الخطابات الناقدة تعاني من غياب الانطلاق من القيم المنهجية التي تبنى عليها الاحتجاجات البناءة فالمطالع يدرك أنه غاب عنها البحث في الأسئلة المركزية التي تسهم في بيان القيم التي يجب مراعاتها في تقييم المشاريع المعرفية والعلمية والسلوكية وتسهم في الوصول إلى الحالة الفكرية المشرقة فلم يعد للأسس المنهجية التي يقوم عليها النقد الموضوعي تأثيرها في تلك الموجة النقدية فهي بالتالي تعاني من فقدان البنية التحتية التي تقام عليها المنهجيات النقدية البناءة.
وحين نقرر أن الخطابات الناقدة تعاني من أزمة غياب القيم لا يعني هذا تبرئة ساحة الخطاب السلفي من التلبس بالآفة فلا شك أن أصواتاً عديدة من الأصوات المعبرة عن الخطاب السلفي والمدافعة عنه تعاني بالفعل من أزمة غياب القيم فقد اشتركت تلك الأصوات مع الخطابات الأخرى في جريمة التعدي على قيم الحوار والنقاش ومع هذا فالبحث لا يقصد إلى الموازنة بين تلك الخطابات المتعددة وإنما يقصد إلى رفع الظلم عن الخطاب السلفي بالخصوص، وتسليط الأضواء على مواطن الخلل في الخطابات المحتجة عليه وهو- في تصوري- حق مشروع تقر به منهجية كتابة البحوث والمقالات.