لا يكاد يتنازع اثنان في أن القيمة الكبرى التي تقوم عليها منهجيات البحث والمناظرة والتعاطي مع مقالات الناس وتصرفاتهم -تقييما ووصفا ومدحا وقدحا- ترجع إلى قيمة العدل فهذه القيمة - بلا شك- معتبرة في كل شيء فالعدل نظام كل حدث في هذا الوجود وهي قيمة أصيلة في الشرع المطهر فالكتاب والعدل متلازمان وقد كرر ربنا سبحانه وتعالى الأمر بها والتأكيد عليها، كما قال سبحانه في الحديث القدسي:(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ... ) وقد بلغ من تجذر هذه القيمة في الشريعة أن جاء الأمر بها حتى مع المخالفين لنا في أصل الدين كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالمسلم مأمور بالعدل في كل شيء، ومع كل أحد وكلما ازداد المسلم امتثالا لهذه القيمة الشرعية ازداد عبادة لله تعالى، وقربا منه سبحانه وكلما انتقص منها افتقد عبادة من أشرف العبادات وكم في النصوص الشرعية من تأكيد على هذه القيمة وكم لعلماء الإسلام من بيان لفضلها وشرف منزلتها فالله سبحانه يحب الاتصاف بها وهي من أفضل الحُلل التي يتحلى بها المسلم خصوصا إذا نصب نفسه حاكمًا على مقالات الناس وأديانهم وأفكارهم فإن الحكم بين الناس في مقالاتهم أعظم من الحكم بينهم في شؤون دنياهم.
فهذه المؤكدات تستوجب على الناقد المسلم أن يبذل جهده الواسع في الاستمساك بقيمة العدل وعدم الخروج عنها؛ لأنه بذلك يتعبد الله تعالى بعبادة من أجل العبادات وهو بذلك يحقق أصلا كبيرًا من الأصول التي تقوم عليها المنهجيات الفكرية البناءة التي توصل إلى الغد المشرق الذي يحقق للناس استقرارهم الفكري والديني والعملي.
ومن مؤكدات الاستمساك بهذه القيمة ما نسمعه صباح مساء من الخطابات المتنوعة المهتمة بنقد الخطاب السلفي في تبرير نقدهم: أن المستوى المعرفي للناس لم يعد كما كان من قبل، وأن إدراكهم للأمور ارتقى بمراحل عما كان عليه فهذا الوعي والارتقاء لدى الناس يستلزم أيضا الإتقان العلمي والانضباط المعرفي والاتساق المنهجي في سجالاتنا الفكرية ويوجب علينا احترام منهجيات النقد وأصول الحوار الصحيح وإلا غدونا في محرقة التناقض الفكري التي لا نتكسب منها إلا الاختناقات والضبابية.
وإن المسلم الحريص على الالتزام بالقيم المنهجية التي جاءت الشريعة بالدعوة إليها وتأكيد منزلتها والحريص أيضا على أن يبدو بمظهر الملتزم بأصول المنهج الراقي ليعتريه الحزن على ما يشهده من خفوت الالتزام بمستلزمات قيمة العدل بل واختفائها أحيانا كثيرة في قدر من الخطابات المحتجة على الخطاب السلفي.
وهذا الغياب له مظاهر عديدة من أبينها:
المظهر الأول: انعدام المطابقة:
فالعدل يستلزم بالضرورة ألا ينسب المرء شيئا إلى من يحتج عليه إلا إذا كان متأكدًا من مطابقة ما ينتقده لحال المنقود وإلا وقع في الخلل المنهجي فضلا عن وقوعه في مستنقعات الظلم المحرم وقد عانى الخطاب السلفي من هذا الظلم كثيرًا فكم نسبت إليه من مقالة بصورة ليست على الصورة التي يقولها وكم أضيف إليه من قول ليس موافقا لقوله فإنك تجد في قائمة التهم أن الخطاب السلفي يشرع الاستبداد السياسي ويدافع عنه وتكتشف أن هذا القول ليس على ما صُور وتقف فيها على أن الخطاب السلفي يجرم دراسة العلوم الخارجة عن دائرة العلوم الشرعية وتكتشف غير ذلك