ونتيجة لتلك النظرة الضيقة أخذ عدد من نقاد الخطاب السلفي يصوره على أنه خطاب يغرد خارج السرب وأنه يعمل في منطقة الخلاء التي لا ينتفع بها أحد وأوهم أنه ينازع في أهمية المجالات الأخرى التي تم اختزال أزمات الأمة فيها.
والمتابع الفطن يدرك أن الواقع مختلف عن ذلك فتلك الخطابات لا ينازعها الخطاب السلفي في أهمية الإصلاح السياسي مثلا أو الإصلاح الفكري أو نحوه فالكل متفق على أن تلك المجالات وغيرها تعاني من أزمة حادة وكلها ثغور تحتاج إلى أن تنفر طائفة من المؤمنين لإصلاحه وترميمه ونزاعهم يدور في دوائر أخرى أضيق من دائرة أصل الأهمية والضرورة وحاصلها يرجع إلى كيفية تناول الإصلاح في تلك المجالات وفي تحديد الأولويات فيها وهذه الدوائر لا تخرج عادة عن ساحة الاجتهاد والموازنة بين المصالح والمفاسد وهي غالبا تتلبس بالغموض والدقة وهذا ما يفسر لنا كثرة الخلاف فيها في الفكر الإسلامي منذ قرن من الزمن تقريبا فليس غريبًا بعد ذلك أن تختلف فيها المواقف بين المعاصرين.
هذه المظاهر الخمسة- في نظري- هي أهم الآفات التي تلبست بها الموجة النقادة للخطاب السلفي في واقعنا المعاصر وتسبب في بروز أعراض مرضية عديدة أنهكت السجالات الفكرية وأودت بها إلى المهالك كما هي العادة المطردة في الاحتجاجات التي لا تلتزم بالقيم العليا ولا تقوم على البنى التحية الناضجة فإنك لا تشهد معها إلا مزيدًا من التشتت الفكري ومزيدًا من ضياع البركة ومزيدًا من كثرة الصخب والضجيج في الحلبة المعرفية ومزيدًا من تخييم الضبابية على المنطقة الوسط ومزيدا من ضياع القصد الأصلي من الاحتجاج وبدل أن يكون السجال سبيلاً مؤديًا إلى الخروج مما نحن فيه من أزمة يغدو جزءًا معضلاً منها يساعد على تكريسها.