والمحتم على الناقد الذي يهمه إصابة الحق والاتصاف بالموضوعية والعدل في نقده أن يراعي تلك التنوعات فيما يوجهه من نقد ومتى ما خلا النقد من مراعاتها فلا بد أن يقع في الآفات المضرة.
ولا شك أن الخطاب السلفي يعد من أكثر الخطابات شيوعًا وتجذرًا في المجتمع وهذا يعني أن تأثير التنوعات فيه سيكون أكثر من غيره.
ومن أظهر الممارسات التي تنافي اعتبار واقعية التنوعات: تعميم الأحكام وإطلاق الأوصاف العامة الشاملة لكل أفراد الخطاب المعين من غير مراعاة لما يشهده من تنوع علمي أو نفسي أو اجتماعي.
وإن المتابع لقدر من الاحتجاجات الموجهة إلى الخطاب السلفي يجد أنها تلبست بتلك الآفة فما إن يرى بعض النقاد قولا قرره طيف من الخطاب السلفي، أو فرد من أفراده، أو مفت بارز فيه إلا ويبادر مباشرة إلى توجيه الحكم إلى كل الخطاب ولا يحاول أن يتعب نفسه قليلا ويجيب على سؤال ملح في النقد وهو: هل هذه المقالة التي ينقدها يقول بها كل الخطاب السلفي أم أكثره أم أقله ولكنه - للأسف - يعمد مباشرة إلى الخطاب السلفي بجملته، وينصبه على خشبته المائلة، ويأخذ في سرد ملاحظاته التي رآها من بعض الأفراد الذين يعيش معهم في مدينته أو إقليمه، أو قرأ لهم في بعض المجلات والمواقع الإلكترونية، أو سمع عنهم من بعض أصدقائه، أو تناظر معهم في بعض حواراته، أو استمع له وهو يفتي في بعض القنوات.
ونحن حين نؤكد على ضرورة مراعاة التنوعات ونحذر من التعميم، لا نقصد بالضرورة أن نمنع استعمال صيغ العموم على كل حال، أو نحكم على كل تعميم بالخطأ، أو نقرر أن الخطاب السلفي أو غيره من الخطابات لا يمكن أن يجتمع على فكرة أو مقالة ولكن غاية ما نريده أن نحرر المقياس الحقيقي الذي ينضبط به استعمال صيغة التعميم بحيث لا يكون مستعملها خارجًا عن الموضوعية والعدل ثم نسعى بعد تحديده إلى ممارسته فعليا على الواقع.
مع أن الطريقة الأكمل من ذلك كله هو أن تتوجه احتجاجاتنا إلى المقالات نفسها -سواء في الخطاب السلفي أو في غيره - وتدور الحوارات في نطاقها ويقام النقد والتقييم والحكم عليها ابتداء ولا نخرج عنها إلا في حالات معينة وظروف خاصة ولكن مشهدنا السجالي انقلبت فيه المنهجية رأسا على عقب فغدت نقطة الارتكاز فيه على صاحب المقالة لا المقالة نفسها، مما اضطرنا إلى التلبس بآفة التعميم والتشرب بآثارها.
المظهر الخامس: الرضوخ للاختزال:
إن من المظاهر المؤلمة التي يشهدها المراقب لاحتجاجاتنا الفكرية رضوخ أكثرها تحت وطأة الاختزال فيخيل للقارئ حين يقرأ بعضها أن حل مشاكل الأمة كلها مرتبط بحبل سري مع مشكلة واحدة بعينها متى ما حُلت فإن مشاكلنا الأخرى ستنحل تلقائيا وهذه النظرة في تقييم الأمور هي في الحقيقة نظرة ضيقة وقعت فيها خطابات عديدة فالخطاب الإصلاحي السياسي يصرخ بأصواته المرتفعة في نوادينا، ويُظهر لنا في خطابه أن الحل السحري للتخلص مما نحن فيه من تخلف يكمن في إصلاح الحكومات المستبدة التي لا تطبق الديمقراطية! ولا يحفظ فيها المال العام ولا توزع فيها الحقوق بالتساوي ويختزل حلول الأزمات الأخرى فيا اقتنع به وخطاب الإصلاح الفكري يُظهر لنا أن الحل السحري للتخلص مما نحن فيه يكمن في متابعة الأفكار الغربية الوافدة وتتبعها نقدًا وتقييمًا وهكذا دواليك في عدد من الخطابات.
والقدر المشترك بين تلك الاختزالات يكمن في افتراض التزاحم بين مجالات الإصلاح واستحالة السير في خطوط متوازية في سبيل الخروج من الأزمة ويكفي هذا تبيانًا لخطأ تلك النظرة وإظهارًا لمخالفتها للتاريخ والواقع.