ولما لم يراع عدد من الممارسين لنقد الخطاب السلفي طبيعة الأزمة وما أحدثته تداعياتها أخذ ينتقده بأنه أهمل مسائل كثيرة من البحث المؤصل الكافي والخروج فيها برؤية ناضجة وهذا في حقيقة الأمر غفلة بل تعالٍ على طبيعة الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي بكل أطيافه فالأزمة لم تدع مجالا لمتابعة ما يضخه العالم الحديث من إشكالياته المتنوعة.
٢ - كثرة الخلافات والتشققات فالمتابع لقدر من الإشكاليات التي ارتبطت بهذا العصر يلحظ أنها اتسمت بالاشتباه والتعقيد والغموض وهذه الأوصاف تؤدي عادة -متى ما توفرت في قضية ما- إلى حدوث الخلاف بين الخائضين في حلها.
ولما لم يراع بعض الممارسين لنقد الخطاب السلفي طبيعة الأزمة أخذ يحكم على الخطاب السلفي - بله الشرعي كله- بأنه يعاني من التشرذم والانشقاق نتيجة اختلاف مواقفه في قدر من نوازل العصر وهذا في الحقيقة غفلة عن طبيعة القضايا التي أحدثها عصرنا الحاضر فليس من المستغرب أن يختلف السلفيون في المسائل الغامضة والشائكة؛ فهم مختلفون بالضرورة في مقدار استيعابهم وقوتهم العلمية والإدراكية.
٣ - التنوع في المواقف؛ ففي عالم سريع التغير والتبدل في مظاهر منتجاته الحضارية وأشكالها فإنه لا محالة ستنصهر فيه المواقف الثابتة وهو بلا شك ما تقتضيه الحكمة والعقل فضلا عن الشرع فليس صحيحا أن يبقى المرء على رأي اتخذه من منتج حضاري ما ويتصلب عليه مع أن هذا المنتج قد تشكل تشكلات أخرى مختلفة اختلافات مؤثرة عما كان عليه في صورته الأولى.
ولكن بعض نقاد الخطاب السلفي يأبى اعتبار هذه الحقيقة ويأخذ في التشغيب بأن الخطاب السلفي تناقضت مواقفه في عدد من المنتجات الحضارية والمثال الذي يمكن أن يكوّن صورة مقاربة لما نحن فيه: الموقف من (الدش) فبدل ما كان يحرم الدش ويصدر الفتاوى في التحذير منه غدا رواد الخطاب السلفي يتهافتون على اقتنائه، أو غدوا مسالمين له على الأقل وهذا في الحقيقة تعالٍ على الواقع، وتغافل عن التطورات التي حدثت في موضوع البحث فالموضوع الذي وقع فيه التنوع في المواقف لم يعد في صورته كما كان عليه في أول خروجه وإنما حصلت فيه تغيرات كبيرة أدت بالضرورة إلى أن يغير بعض الخطاب السلفي موقفه منه ولكن بدل أن يكون هذا تفاعلاً ممدوحًا مع الواقع وتفهما له أضحى تناقضا ودليلا على ضبابية المواقف في بعض النقاد!!.
المظهر الرابع: عدم مراعاة التنوعات المؤثرة:
لا شك أن كل خطاب معرفي أو سلوكي لا بد أن يرضخ تحت وطأة التنوعات التي تؤثر في تحديد المواقف المتخذَة من قبل أتباعه وكلما ازداد الخطاب اتساعًا وشيوعًا في المجتمع ازدادت تلك التنوعات تأثيرًا في تحديد مسار ذلك الخطاب.
والتنوعات المؤثرة في الخطابات عديدة من أعمقها:
التنوع المعرفي: فأتباع الخطاب الواحد ليسوا سواءً في وعيهم بالأصول التي يبنى عليها خطابهم، ولا بمدى مستلزمات تلك الأصول، ولا بمقدار تفهمها وتمثلها في الواقع بل هم مختلفون فيها اختلافات واسعة.
ومنها: التنوع النفسي: فأتباع الخطاب الواحد ليسوا سواءً في أمزجتهم النفسية فهم بلا شك متفاوتون فيها بين الحاد جدا وبين الأقل حدة وبين الهين اللين ولا شك أن المزاج الشخصي له تأثير ظاهر في طبيعة القرارات الدينية أو الدنيوية التي يتخذها في حياته.
ومنها: التنوع الاجتماعي: فأتباع الخطاب الواحد ليسوا سواءً في أحوالهم اليومية التي يتلبسون بها فهم يختلفون فيها كثيرًا وهذه الأحوال لها آثار بارزة فيما يتخذه الأشخاص من مواقف.