وقد بدأ نفس الموازنة في عدد من الكتابات الناقدة للخطاب السلفي بوضوح فتراه يعترف ابتداء بأنه قدم للأمة الشيء الكثير من المنجزات ولكن الناظر في قدر آخر من الممارسات النقدية الموجه إلى الخطاب السلفي يلحظ فيها غياب ذلك الاستشعار للموازنات فيخيل إليه حين يطالع النقد الموجه إلى الخطاب السلفي أن هذا الخطاب لم يعمل خيرًا قط وكأنه لم يقدم أي إنجاز للأمة في المجال الفكري أو العلمي أو السياسي أو الاقتصادي أو الإعلامي أو التربوي أو السلوكي ويخيل إليه أيضا أن الخطاب السلفي هو الخطاب المتخلف فقط وأنه هو الذي يعاني من الخلل الفكري وكأن الخطابات الأخرى المتدافعة معه لا تعاني مما يعاني منه أو أكثر وكأنها استطاعت أن تقدم للأمة حلولا تخرجها من الأزمة التي تعاني منها!
والمراقب العادل إذا أراد أن يتماشى مع المنهج القرآني في الموازنة فإنه سيتجلى أمام ناظريه أن إنجازات الخطاب السلفي أكبر - من حيث عمقها في المجتمع وتنوعها وأثرها - بكثير مما ينتقد عليه ويدرك بوضوح أن هذا الخطاب يمتلك مواصفات واقعية تؤهله - إن أحسن استثمارها- للخروج من الأزمة الخانقة بنجاح ومن أدلة ذلك: قوة المستند وحيوية الأصول التي يقوم عليها وسعة الانتشار والتنوع المعرفي الذي يتمتع به والاندراج في العمل المؤسسي ومراكز البحث بصورة مكثفة وما غدا يتمتع به من توسع في دوائر الاتصال بالمجتمع على اختلاف طبقاته وما يمارسه من تفاعل مع مجريات الواقع وتطوراته ومستجداتها -الإعلامية خاصة - وباحترافية في عدد من المجالات.
المظهر الثالث: عدم مراعاة مقدار الأزمة:
لم تتفق آراء الباحثين العرب على شيء اتفاقها على أن الواقع العربي والإسلامي يعاني من أزمة حادة مستعصية على الحلول وهذه الأزمة مكتسحة لكل المجالات تقريبا - المجال الفكري والسياسي والاقتصادي وغيرها- وهي بطبيعة الحال تختلف في الحدة من بلد إلى آخر.
وقد أدى إلى حدوثها أسباب عديدة لعل من أفتكها:
١ - التخلف السابق: فالعالم الإسلامي عاش في القرنين الماضيين أنواعا من التخلفات وقد كان لها أبعاد واسعة على
واقعنا المعاصر فالأمة الإسلامية لم تتعاف من ذلك التخلف بعد وهي تحتاج إلى عقود لتتخلص من رواسبه.
٢ - التغير المذهل في مجريات الواقع: فواقعنا المعاصر فاجأ العالم بالتغيرات المذهلة التي وقعت فيه فقد تغيرت القوى
المؤثرة في القرار وتغيرت تبعا لذلك مناطق الضغط السياسي والاقتصادي واتسم كذلك بضخامة الاكتشافات العلمية التي غيرت من وجه الأرض وأحدثت معها إشكاليات دينية ومعرفية وفكرية كثيرة وازداد واقعنا تركيبا وتعقيدا وازداد سرعة في التغير والحدوث.
وقد تجاوزت آثار تلك الأزمة إلى مجالات عديدة متعلقة بحياة الإنسان كالمجال السياسي والمجال الاقتصادي والمجال الفكري والشرعي ويتجلى أظهر آثارها على القضايا الفكرية والشرعية في الأمور التالية:
١ - غياب التأصيل الشرعي والفكري الكافي عن عدد من نوازل العصر- خاصة السياسية والاقتصادية - فبناءً على التتابع السريع بين مجريات الواقع وكثرة الترابطات بين الأحداث غدا من الصعب جدا تتبع كل جزئيات المسائل بالبحث المؤصل وغدا من الصعب أيضا على كثير من المفكرين وطلبة العلم أن يكوّن الملكة العلمية التي تؤهله لخوص البحث في تلك النوازل بحيث يخرج فيها بصورة ناضجة وهذا ما يفسر لنا الإحجام عن الإقدام على بحث تلك المسائل فنتج بذلك بلا شك فقدان التأصيل الواضح لبعض تلك النوازل أو ضعفه في بعضها.