ألم تشب الأمة، لتقف على قدميها، وتنظر أمامها، فتطلب حلولها مما تستقبل، لا مما تستدبر، فتعمل على إعداد القوة العسكرية، والصناعية، والتقنية، والمالية، لتقارع قوة الغرب، الداعم والمنشيء لهذه الدولة الصهيونية المقيتة؟.
هو سؤال واستنكار في محله، على من اكتفى بالنظر إلى الوراء، ومنع من النظر إلى الأمام، ليس شرط النصر: أن نستعيد أدواته من التراث القديم فحسب.
بل نأخذ من القديم ما ننطلق به، ونعتمد عليه في التأسيس؛ لأن القديم فيه ذكرنا:
{لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون}.
وفيه هدايتنا: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .. }.
وفيه الشفاء: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء .. }.
قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله، وسنتي).
نحن نرجع، لنقف على خطئنا، ونتعرف على الصواب .. نرجع لنستمد اليقين والإيمان، ثم ننطلق مستصحبين هذا الميراث؛ ليهدينا من ضلالة، ويخرجنا من غواية، ولا نمنع من النظر إلى الأمام؛ بمعنى تحصيل كافة وسائل القوة الحديثة، من سياسية، ومال، وسلاح، وصناعة، وثقافة .. إلخ.
إنما الممنوع تحصيلها بعيدا عن ضابط يضبط - والضابط موجود في التراث - وإلا استوينا نحن وأمة الكفر في الأخذ بها، بكل تفاصيلها، حلها وحرامها، فكيف نستوي نحن وهم، وقد فرق الله بيننا؟.
ومما نرجع إليه من التراث؛ نبتغي الاستدلال على الطريق؛ طريق الفتح: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتحه بيت المقدس.
فقد قدم رضي الله عنه الشام لتسلم مفاتيح بيت المقدس، على جمل أورق، يلبس قميصا قد رَسِمَ وتَخَرّق .. عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع موقيه، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال أبو عبيدة: "قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض"، فصك في صدره وقال: "أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة؟!، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله". ابن كثير
بهذه الروح العزيزة القوية فتح بيت المقدس.
وفي رواية أخرى تاريخية: أقبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام فاستقبله الأمراء في الجابية، إلا أبا عبيدة، فقال: أين أخي أبو عبيدة؟، قالوا: يأتيك الآن، فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه، ثم قال للناس: انصرفوا عنا، فسار حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعا. أو قال: شيئا. فقال: يا أمير المؤمنين! إن هذا سيبلغنا المقيل. سير أعلام النبلاء ١/ ١٧
قائد جيوش الإسلام، ليس في بيته شيء، إلا عدة الحرب، وخليفة المسلمين يأتي إلى الشام على جمل يتناوبه هو وغلامه، ولباسه رَسِمٌ مُخَرّقٌ، بمثل هذا الزهد الصادق انتصروا على: فارس، والروم.
ومما روي: أن عمر أتي ببرذون فركبه، فلما سار جعل يتخلّج به، فنزل عنه وضربه في وجهه، وقال: " لا علم الله من علمك، هذا من الخيلاء"، ولم يركب برذونا قبله ولا بعده. ابن جرير ٢/ ٢٥٠
هذا عامل آخر من عوامل النصر، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (٤٧) سورة الأنفال، فالخيلاء والكفر صفة الكفار، أما المؤمنون فسيماهم التواضع والسكون وخفض الجناح.
دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسجد الأقصى فصلى بالمسلمين صلاة الفجر، فقرأ في الأولى بسورة ص~ وسجدة فيها بسجدة داود عليه السلام، وفي الثانية بسورة الإسراء، ثم أتى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار، وكان الروم قد جعلوها مزبلة؛ لأنها قبلة اليهود، مكافأة لما عاملت به اليهود القمامة، وهي المكان الذي صلبوا فيه المصلوب، فشرع عمر في تطهير الصخرة من الأوساخ والمسلمون معه. ابن كثير ٧/ ٥٥/٥٦
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (٥٥) سورة النور.
المصدر: صيد الفوائد