- نقل الشبهة إلى غيره: حيث تجده ينشرها بين أصحابه ويعرضها في كل مناسبة ويكرر عرضها؛ وكأنه لم يبق معه من القول والهمِّ في دينه ودنياه إلا ما أُشرب قلبه من ذلك؛ فهو لا يكتفي بمرض قلبه، وإنما ينقل عداوة إلى الآخرين السالمين الأصحاء والطامة الكبرى تكون حيث يخصّ بهذه البوائق أحبابه وأصحابه المقرّبين منه أو طلابه المتأثرين به؛ فما أعظمها من مصيبةٍ وقعت على الطرفين!
وهذا معنى تشبيه القلب بالإسفنجة؛ لأنها إذا امتصت العفن صارت تنضح وتقطر بما فيها من ذلك كما هو مشاهد وكذا القلب الشبيه بذلك.
وقد مرّ بي من ذلك نماذج، خاصة في السنوات الأخيرة؛ حيث يأتي إليّ بعض الطلاب الذين أحسنوا الظن بأخيهم الذي اعتبروه أستاذاً لهم يسألونه عن شبهات عالقة بعقولهم وقلوبهم، والسؤال منهج حسن ممدوح، بل هو مخرج ضروري لإزالة الشبهة وسلامة القلب منها، ولكن الذي لفت انتباهي هو: حمل هذه الشبهات وانفعال بعض أصحابها، وهو ما قد يوحي بدرجة ما من علوقها في القلب، ثم إنّ أكثر هذه الشبهات قد أجاب عنها العلماء قديماً كما أجاب عنها العلماء المعاصرين في كتبهم ودروسهم وأشرطتهم المبثوثة؛ فهي ليست جديدة وهي شبهات مكررة لأهل البدع من الجهمية والرافضة والمعتزلة والأشاعرة ... وغيرهم فلو أنّ هؤلاء أصّلوا طلبهم للعلم وأخذوه عن العلماء الموثّقين قديماً وحديثاً وتعمّقوا في مسائله لوجدوا في ثنايا كُتبهم ودروسهم الأجوبة واضحة، فما أحوج هؤلاء وأحوجنا جميعا إلى وصية شيخ الإسلام هذه!
فإن قال قائل: هل كل من سأل نتيجة إشكال أو شبهة عرضت له فهو إسفنجي؟
الجواب: هناك أسئلة في العلم أثناء تعلمه وتلقّيه؛ حيث ترد الأسئلة والطالب يسيح في بحر العلم الشرعي، فهذا من الممدوح الذي يدل على ذكاء صاحبه وعمق فهمه، لكن لا يتعدّى السؤال مسائل الباب ولا وقت الدرس حيث تنغمر الشبهة في بحر العلم ويكون جوابها سهلاً، وليس لها علوق في القلب يكدّر صفاءه، هذا ديدن طلاب العلم (قديماً وحديثاً) مع شيوخهم، وعلى رأس هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يسألون عمّا يُشكل عليهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم يُجيبهم، ونماذج ذلك في السنة كثيرة.
أما الإسفنجي الذي حذّر منه شيخ الإسلام تلميذه ابن القيم، فهو ذلك الذي يتشرّب شبهات أهل الأهواء فتعلق في قلبه فيكررها وينشرها وينضح قلبه بها.
إذاً: ما المخرج من هذه الحالة الإسفنجية؟ وكيف يسلم طالب العلم بل عموم المسلمين من الوقوع في هذه الحالة التي حذر منها شيخ الإسلام وهو الخبير بأحوال القلوب وبأحوال عصره والتقلبات التي تَعرض لطلاب العلم؟
أجاب شيخ الإسلام في وصيته السابقة بقوله:" لكن اجعله (أي: قلبك) كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فهيا فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته"
وهذا موجّه لابن القيم المعروف بسعة علمه، وبقوة تألُّهه وعبادته، وخبرته بأحوال القلوب وأمراضها وأدوائها وطرائق علاجها: فكيف بنا وبأحوالنا والله المستعان؟