للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد ظهرت في هذه الأيام طائفتان مبتدعتان، افترقتا في الدعوى، لكن مؤدى كلامهما واحد أو متقارب، إنه الانقضاض على المعهود السالف من الشريعة، وبذل الوسع في إثبات تناغمها مع القيم الغربية الليبرالية.

أما الأولون، فهم من نسب طريقته هذه إلى المنهج السلفي، حتى قد قال بعض الصحفيين لأحدٍ مِن أشهر مَن عُرِف بالشذوذ في الآراء: "لقد رددت على أصحاب المنهج السلفي بأدوات سلفية!!، فالتترس بالدليل، ومحاربة التقليد، والتنقيب عمن قال بهذا القول، والمطالبة بالتثبت في حكاية الإجماع وعدم المبالغة في استعماله، هي تلك الأدوات التي أطلق عليها ذلك الصحفي أدوات سلفية.

أما الفريق الثاني، فهم أصحاب المدرسة المقاصدية، الذين بالغوا في إعمال ما سموه هم "مقاصد الشريعة"، حتى أباحوا كل منصوص على تحريمه، وكل مجمع على المنع منه، بـ"مقاصد الشريعة"، بل قد رموا مخالفهم بالجمود، والوقوف عند الجزئي وإهمال الكلي، ثم نقبوا عن المخالف، ولا تخلوا مسألةٌ من قولٍ شاذ، فاحتفوا به، وجمعوا له شاذًا آخر، وضخموا الخلاف، وامتطوا ظهر الاجتهاد، فنقضوا المحكمات، وعمدوا إلى المشتبهات، ودعوا إليها، وهكذا حتى أصبحت مقاصد الشريعة أداة لهدم الشريعة.

وهكذا أغرق الفريقان القول، وتمالآ ـ إن أحسنا الظن بمراميهم ـ على إهمال قول السابقين مجتمعين، ولم يقيما وزنا لتتابع عمل الأمة، وتضخم لدى كل طائفة منها الاعتداد بفهمه لأدلة الشريعة، وبرز "احتقار" أفهام السابقين جليا في نتاجهم، وكم تجد في كتاباتهم عبارة: "وقد تأملت في الأدلة"، أو "وإذا تأملنا في الأدلة"، ضاربين صفحا عن فهم الأئمة قبلهم، وكأنهم ـ أي أئمة العلم ـ، واحدًا تلو الآخر، عجزوا عن التأمل في الأدلة، وأهملوا كلياتها!.

نحن لا نتحدث عن أصحاب المدرسة الليبرالية الصرفة ممن يكره التدين، لكننا نتحدث عن طائفة ممن ينتسب إلى الخير ـ فيما يظهر ـ عمل أصحابها سفراء لليبرالية، شعروا أو لم يشعروا، فقد أحبهم الليبراليون واحتفوا بهم، ليمهدوا لهم الطريق، وهؤلاء الصالحون، كمغفلي رواة الحديث، أدخل عليهم أهل الفساد أحاديث فاستحسنوها، ورووها، وما هو إلا تترسا من أهل الباطل بمغفلي أهل الحق.

ونحن حينما نتحدث عن ظاهرة فلا يعني أنها تتخذ شكلا واحدًا، أو بعدًا واحدًا، فأهلها مختلفون، منهم المغرق المتطرف، وربما أعجزته الحكمة، فيفضح نفسه، ويحرق أوراقه، وهذا من رحمة الله، لكن قد نبتلى بالمجانب عليم اللسان، قوي البيان، الذي يحسن استخدام الحجة والبرهان، فيعمل سفيرًا بامتياز لكل ما هو ليبرالي متحرر من الدين.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه المرحلة هو كيف نقاوم هذه الظاهرة ـ إن صحت تسميتها ـ، الجواب قد يطول لكن لا بد لحملة العلم المنافحين عن الشريعة من التصدي وبقوة لهؤلاء، وأن لا يمنعنا ماض مشرق لبعضهم من بيان خطلهم، فدين الله أحب إلينا من أحبابنا ـ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين ـ فالقضيتان المتقدمتان يجب أن تكونا من أول اهتماماتنا، فلا بد من إشباعهما بحثا، ثم إحداث ثورة عارمة على هؤلاء من خلالهما، تنتهي بصرع هذا النهج المبتدع.

<<  <  ج: ص:  >  >>