للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم لا بد من إعادة الاعتبار للأمة، سيما إذا جرى اتفاق بينها على أمر، ولا بد من إعادة الاعتبار لما جرى عليه عمل المسلمين منذ فجر تاريخ الإسلام حتى عصور الانحطاط هذه - سمّه إن شئت بالإجماع العملي-، وأن يوضع خلاف الواحد والاثنين والثلاثة - ولو كانوا من الأكابر - في حيزه الضيق، فلا يعمل به، ولا يلتفت إليه، فضلال أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو جمهورها الغالب محال - عقلا وشرعا - ويجب أن نعرض صفحًا عمن صاح "الدليل، الدليل يا عباد الله"، مهملا "دلالة الدليل عند جماهير السالفين"، فكلام الشارع له دلالة تجمع الأمة عليها أو تختلف، فإن أجمعت فلا يصح نصب الدليل إلا من خلالها، وإن اختلفت، فقد أجمعت كذلك الأمة - ضمنا - على أن الحق محصور بين هذه الأقوال، وأن القول الجديد محدث مبتدع، ولعل الله ييسر إتمام بحث بعنوان "القول الشاذ، والآثار المترتبة عليه ".

هذا شق، وشقيقه الآخر؛ إعادة "مقاصد الشريعة" إلى حياضها، فلا هي دليل جديد غفل عنه السابقون، وأهملته نصوص الشريعة، ولا هي قاعدة تتابع الأصوليون على الجهل بها، وكل ما في الأمر أنها من خصائص الشريعة؛ فلا تملك تحريما، ولا تحليلا، فهاهي كتب الأوائل في الأصول والكليات والقواعد، هل ملئت الدنيا ضجيجا بهذه المقاصد؟ لقد مرَّت الأمة في عصورٍ خلت، بواقعٍ أشد بؤسًا من واقعنا، ومع ذلك لم نسمع من علماء تلكم العصور زعيقا: "الجئوا إلى المقاصد ففيها النجاة"، متذرعين بـ"واقع جديد يفرض نظرا كليًا في ضوء مقاصد الشريعة "!.

ثم لنتأمل كتاب الله، وسنة رسوله لنستلهم منه مقاصد التشريع، وهي ومقاصد خلق الخلق صنوان، ولنتدبر هذه الآيات، وما قاله أهل العلم السالفين في دلالاتها:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {٤٥} وَدَاعياً إلَى الله بإذنِهِ وسِرَاجَاً مُنِيرَاً) الأحزاب، وقريب منها في الفتح، ومثلها (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ {١١٩}) سورة البقرة مع آيات أخرى كثيرة مشابهة، وخلاصة معناها ({شاهداً} أي لله بالوحدانية, وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}. وقوله عز وجل: {ومبشراً ونذيراً} أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب, ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلَّت عظمته: {وداعياً إلى الله بإذنه} أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك {وسراجاً منيراً} أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشرافها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند)، نقلا من تفسير ابن كثير.

وقوله (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). آية ٧ من سورة هود، وقوله (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) آية رقم ٢ من سورة تبارك مع آيات أخر، مشابهة، ومعناها (ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا). وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) في ثلاث آيات، قال البغوي ("ليظهره"، ليعليه وينصره "على الدين كله")، وهو أحد المعنيين، وسواء حملنا اللام هنا للعاقبة، أو للتعليل، وسواء كان الكلام عن إرادة كونية، أم شرعية، فالمؤدى واحد.

<<  <  ج: ص:  >  >>