للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن مثل هذا النقل لمذهب الحنفية ظن الكثير أن أبا حنيفة يجيز أن تتولى المرأة منصب القضاء، وهذا الفهم خاطئ لأنه لا يلزم من القول بجواز قضائها- إذا وليت القضاء- القول بجواز توليها القضاء، وهذا ما أشار إليه المحققون من أئمة الحنفية أنفسهم.

قال في مجمع الأنهر: " ويجوز قضاء المرأة في جميع الحقوق لكونها من أهل الشهادة لكن أثم الموليّ لها للحديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) (١).

فترى أنه نص على أثم المولي، ولا يحكم بالإثم إلا على فعل محرم.

وقال العلامة ابن الهمام في الرد على استدلال الجمهور بحديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) على عدم جواز قضائها وعدم نفاذ حكمها: (والجواب أن غاية ما يفيده منع أن تستقضى وعدم حله، والكلام فيما لو وليت وأثم المقلد بتوليتها، أو حكمها خصمان فقضت قضاء موافقا لدين الله أكان ينفذ أم لا؟) (٢).

فتلاحظ أن ابن الهمام رحمه الله نص على أن الخلاف إنما هو في نفاذ حكمها من عدمه في حالة ما لو وليت القضاء أو حكمها خصمان، ولذلك فإن مفهوم كلامه رحمه الله أنه لا خلاف في أنه لا يجوز توليتها القضاء. كما أنه نص على أن الحديث يدل على منع توليتها وعدم حله. وقال ابن نجيم: " لأنها أهل للشهادة في غيرها فكانت أهلا للقضاء لكن يأثم المولي لها" (٣).

وقد أشار ابن العربي المالكي إلى هذا التفريق بين القول بجواز حكمها والقول بجواز توليتها فقال: " ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه ولعله نقله عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور، بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستنابة في القضية الواحدة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير". (٤).

النتيجة:

مما تقدم فإن الجزم باتفاق الأئمة الأربعة على القول بعدم جواز تولي المرأة منصب القضاء صحيح.

ولذلك فإن التعلق بنسبة القول بجواز تولية المرأة القضاء إلى أبي حنيفة باطل، وأبطل منه ما ركب على ذلك من أحكام أخرى كما سيأتي في مبحث الولاية العامة.

القول الشاذ في هذه المسألة:

فإذا تبين اتفاق المذاهب الأربعة على منع المرأة من تولي منصب القضاء، فقد حُكي عن الإمام ابن جرير الطبري أنه على خلاف ذلك، وأنه يجيز أن تكون قاضيا على الإطلاق في جميع الأحكام.

وهذا القول مشهور عن ابن جرير، وذكره غير واحد من العلماء عنه (٥) وهو قول ابن حزم كذلك (٦).

وقد أشار ابن رشد في باب معرفة من يجوز قضاءه إلى هذا القول والذي قبله فقال: " وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة: فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم، وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال. قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكماعلى الإطلاق في كل شيء (٧).

التحقيق في قول ابن جرير:

لم يثبت هذا القول عن ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - بنقل صحيح ولم ينص هو على هذا في شيء من كتبه.


(١) مجمع الأنهر (٢/ ١٦٨)
(٢) فتح القدير (٥/ ٤٨٦)
(٣) البحر الرائق: (٧/ ٨)
(٤) أحكام القرآن: (٣/ ٤٨٢)
(٥) انظر: الحاوي (٢٠/ ٢٢٠) الذخيرة (١٠/ ٢١) المغني (١٤/ ١٢).
(٦) المحلى (١٠/ ٢٩٥).
(٧) بداية المجتهد (٤/ ١٧٦٨)

<<  <  ج: ص:  >  >>