والذي أريد أن أفهمه: كيف يستقيم لشخص أن يُحرِّم "خلوة الرجل بالأجنبية" ولو مرةً واحدةً "لدقائق معدودة" مع تقدير انشغاله عنها وهي "محتشمة""متحفظة" لورود "النص المحرم" ولانعقاد "الإجماع" على تحريم "الخلوة"، كيف يستقيم لهذا أن يبيح "الاختلاط بين الجنسين""الساعات الطوال" على مدى "أيامٍ وسنواتٍ" في "دوائر العمل" و"قاعات الدراسة"، فأي الأمرين أولى بالتحريم في قياس الشريعة، وأيهما أعظم مظنةً لوقوع المحذور. ومن المعلوم ما تفضي إليه مثل هذه "المخالطة المطولة" من رفع "للكلفة" وإزالة "للحرج"، فلو قُدّر أن "هذا" و"هذه" تحفظا في بداية "اختلاطهما" فإن مآل هذا التواصل الطويل غالباً ارتفاع مثل هذا "التحفظ" وهذه "الكلفة" وتلكم "الحساسية"، والبدء "بعلاقة" يسودها ما يسود العلاقات من "عفويةٍ""وضحكةٍ""ونكتةٍ" و"دعابةٍ" وغير ذلك، ليتطور الأمر إلى ما ورائه، والواقع شاهدٌ، والصور حواضر، وفتش في عالم "اليوتيوب" وفضاء "الإنترنت" تعلم حجم الخلل وواقع الإشكال.
وليت شعري هل يصح أن تترك مثل هذه "المحكمات" في تحريم "الاختلاط المقنن" ويتعلل مثلاً بكون المرأة كانت تساعد في الحروب، أو أنهن يختلطن في المطاف، أو أنهن يبعن ويشترين في السوق، أو أنهن كن يستفتين النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة الرجال، أو أن النبي كان يأتيهن ونحو ذلك من النصوص "المجملة""المحتملة"، بل و"الخارجة" عن سياق مسألتنا أصلاً.
ولنراجع "السيرة العملية" التي عاشها الصحابة في "العهد النبوي" حتى ننتزع بقية هذا الإشكال من أساسه، هل كان النساء يخالطن الصحابة في المجالس والملتقيات؟! وهل كن يتزاحمن على النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال كل يطلب قربه والتواصل معه؟! وهل كانت الواحدة منهن تجلس بجانب الرجل لا تجد في ذلك غضاضةً ولا حرجاً؟! أم أنه كان "للنساء مجالس" و"للرجال مجالس"، وأن مثل هذا "الاختلاط المقنن" لم يكن له وجود ولا حضور عند الصدر الأول. ووالله لو كان الأمر أمر "اختلاطٍ ظاهرٍ" لكان في "شهرته" و"انتشاره" ما يغني عن الاستدلال له بأن امرأة جاءت تستفي النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على امرأةٍ مرةً ونحو ذلك. فإن مثل هذا لو كان لكان من "الكثرة" و"الشهرة" ما يغني صاحبه عناء تتبع أفراد أدلته وجزئياته.
ثم تدبر الحديث التالي، والذي يبين طبيعة مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يقع في زمانه من الفصل بين الجنسين:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن:"ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار". فقالت امرأة: واثنين؟ فقال:"واثنين". وقد بوب الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله:"باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم".
فلو كان الاختلاط جائزاً، وكان هو الأصل لكان حال النساء في الأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله كحال الرجال، فلم يكن هناك غالبٌ ومغلوبٌ، ولقيل لهن: تعالين وساوين الرجال في مكانكن من النبي صلى الله عليه وسلم، أو اجلسن بين ظهراني الرجال، أو تقدمن عليهم. ولا شك أن هذا يتضمن توفيراً للوقت وللجهد، قائد الأمة صلى الله عليه وسلم بأمس الحاجة إليه.