فانظر لهولاء الصخّابون في الصحافة؛ كيف كالوا بمكيالين، وما الشمس بخافية على ذي عينين، وقديما قالت العرب:«الشيء من معدنه لا يستغرب»، فكل من ينادي بفصل الدين عن الحياة، أو يرى فلسفة في الحياة غير ما يراه الدين، ويرضى بأن يكون بوقاً لأقوام لا خلاق لهم ولا حض في الآخرة؛ فهذه دعواه. ومع أن دعواهم لم تكن غائبة على أهل العلم وحماة المجتمع المسلم، إلا أن الله أظهرها للعامة والخاصة، وفضحهم بأيديهم وأيدي المؤمنين؛ وهذه سبيل المنافقين، قال سبحانه: ?وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ? [محمد:٣٠]. نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهداية.
وقد بلغت الجرأة ببعضهم إلى تحزيب المجتمع الواحد، وتصنيفه حسب أهوائهم وشهواتهم، في دعوىً آثمة تفوح منها ريح الجاهلية، والله عز وجل قد أمر بالاجتماع والتآلف في مواطن كثيرة من كتابه العزيز، فالكون كله لله والخلق خلق الله تحت شرع الله، قال سبحانه: ?إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ? [الأنبياء:٩٢]. ولا ينقضي عجب المسلم وهو يتابع جرأتهم في ذلك، وتقسيمهم المجتمع بكل مقوماته ومؤسساته إلى قسمين وحزبين؛ لسان حالهم "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، فلم يكن الأمر سجالاً علمياً يصوّبه الدليل، ويزيّنه الأدب، ويحتويه الحلم؛ بل شهوات وشبهات؛ ظلمات بعضها فوق بعض، فإذا نشدت أحدهم الحجة أبلس وخنس، وهيهات أن يعقد لهم مسلم خنصره؛ فإنما هو دين، وما هي إلا جنة أو نار.
بل لم يتورع بعضهم من استعمال العبارات الساقطة, والألفاظ النابية، حتى لكأنه يلمز هيئة علمية ينتسب لها كبار أهل العلم بما قد صانهم الله عنه، فما هي إلا كلمات مشاغبة تدل على فكر صاحبها وعلمه وأدبه، وقد قالت العرب قديما «كل إناء بما فيه ينضح»، فما أساء صاحبها إلا إلى نفسه، ولا وصف في قوله إلا شخصه.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها في فعله والتكلم
وإن الإنسان ليعجب من السماح لمثل هؤلاء بالكتابة في صحفٍ سيّارة تتلقفها أيدي الناس، وهم إنما يسعون بخيلهم ورجلهم لهدم المجتمع وتفكيك لحمته وزعزعة قواعده وتفتيت أخلاقه، والشيطان يؤزهم على ذلك أزّاً؛ مصادمين مشاعر الناس في تحدٍّ لرغباتهم وقدحٍ في مسلمات دينهم، فمن لم يزعه خوف أو أدب من الطعن في مؤسسة علمية يسمع صوتها أغلب المسلمين في أرجاء العالم، وينظر لرأيها المجتمع بأسره من حاكم ومحكوم؛ فكيف يُرجى خيره أو يؤمن شره؟
ولسنا في حاجة لسوق كلامهم فقد كرعت بهم الصحف، وبالت وثلطت بسُمّهم الزعاف، كما لسنا بحاجة للتصدي له ورده، فليس فيه مستمسك علمي يعارض بمثله، وإنما هو الخوض في الشريعة وأخلاق المسلمين، وهذا هو المجتمع بحكمه وحاكمه ومحكومه. إلا أنا ندعوهم للقراءة في محاسن الإسلام وحكم تشريعاته ومقاصده، وكيف أنه انتظم الدين والدنيا في نظام شرعي كوني واحد، فهو دين الفطرة الذي أكمله الله لنا ورضيه وأتم به علينا نعمته، فيه من القطرة إلى القنطرة، ومن الجرة إلى المجرة، جمع الدين والدنيا، والأولى والآخرة، والحياة والكون، والسماء والأرض، والبشر والملائكة، والجن والإنس ... ؛ فمن عدّل أو بدّل فإنما خصمه الله. فندعو الجميع بدعوة الله في قوله تعالى: ?وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا? [الأعراف:٥٦] فكل نظام شرعي يخلّ به أشخاص؛ قابله من الفساد الكوني، بقدر ذلك الخلل.