في الحج والطواف، مع أن هذه العبادة العظيمة تختلف عن باقي العبادات بسبب كثرة الناس فيها واجتماعهم في أماكن معينة وفي وقت واحد, ومع ذلك منع الإسلام من الاختلاط فيها. أخرج البخاري (١٦١٨) من حديث ابن جريج أخبرني عطاء (إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال) قال: كيف يمنعهن؟ وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يُخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجْرَةً مع الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين. قالت: "عنك"، وأبت. وكن يخرجن متنكراتٍ بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهنّ كن إذا دخلن البيت؛ قمن حتى يدخلن وأُخرِج الرجال. وكنت آتي عائشة، أنا، وعبيد بن عمير، وهي مجاورة في جوف ثبير. قلت: وما حجابها؟ قال: هي في قبة تركية لها غشاء، وما بيننا وبينها غير ذلك، ورأيت عليها درعا مورّداً. اهـ
وهذا ظاهر أن الاختلاط في عهد الصحابة غير جائز، وأنهم يأمرون بالمنع منه.
ومعنى (حجْرَة) أي: معتزلة الرجال, وفي رواية: (حجزة) وهي رواية عبد الرزاق؛ فإنه فسره في آخره فقال: "يعني محجوزاً بينها وبين الرجال بثوب".
وقوله: (فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين. قالت: "عنك"، وأبت).
دليلٌ على أن اختلاط الرجال بالنساء لو كان جائزاً؛ لما امتنعت عائشة رضي الله عنها وهي أم المؤمنين وأفقه النساء, وأبت أن تستلم الحجر الأسود مع المرأة، مع فضل استلام الحجر الأسود.
وقوله: (قلت: وما حجابها؟ قال: هي في قبة تركية لها غشاء). دليل على احتجابها وابتعادها عن الرجال وعدم اختلاطها بهم.
فمن يجرؤ بعد هذا أن ينكر أن الاختلاط مصطلح شرعي، له حكمه الواضح البين؟ وقوله (يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال) أي كن يؤخرن طوافهن إلى الليل؛ لأن الليل أستر لهن، ومن المعلوم أنه لم يكن هناك مصابيح كما هو الآن، ومع ذلك كله كنّ متنكرات أي مستترات، كما في رواية عبد الرزاق, وإذا أردن أن يدخلن البيت أي (الكعبة) خرج الرجال, وهذا يدل على أن ذلك ليس خاصاً بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذكر النساء عموماً, وتقدم أن عائشة أنكرت على المرأة ولم تذكر لها إن هذا الفعل خاص بها، ومن المعلوم أن قول الصحابي الموافق لقواعد الشرع لا يمكن ادعاء الخصوصية فيه.
ووقع في رواية الفاكهي: كن إذا دخلن البيت سُترن، أي ستر النساء عن الرجال وهذا زيادة على احتجابهن باللباس وكونهن يفعلن ذلك في الليل, ولذا قال ابن حجر في شرح تبويب البخاري على هذا الحديث (١٦١٩): " (باب طواف النساء مع الرجال) أي هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن"اهـ.
قلت: والذي دل عليه الدليل هو الثاني، أي أن يطفن على حدة بغير اختلاط؛ لأن انفرادهن بالمسجد وإخراج الرجال منه لا يمكن, واختلاط الرجال بالنساء قد نفاه الراوي فلم يبق إلا الأمر الثاني وهو أن يطفن على حده من غير اختلاط.
ولذا في الحديث الثاني الذي أورده البخاري تحت هذا الباب, وهو حديث أم سلمة عندما قالت: شكوت إلى صلى الله عليه وسلمأني أشتكي, فقال: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) , وهذا أبلغ من الذي قبله, فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تطوف من وراء الناس, أي الرجال؛ لئلا تخالطهم, مع أن القرب من البيت أثناء الطواف أفضل وأرفق بها؛ لأنها شاكية, ومن المعلوم أنها كلما ابتعدت ستطول عليها مدة الطواف, ومراعاةً لشكواها أمرها أن تركب.
قال ابن حجر: "وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها ولا تقطع صفوفهم أيضا, ولا يتأذون بدابتها"اهـ.
الدليل الخامس عشر: