للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدليل الأول: ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم، هن لهنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمهله من أهله) (١).

وجه الدلالة: أن الحديث دل على وجوب إحرام من مرّ على هذه المواقيت وليس من أهلها، ولا يجوز له تأخير الإحرام إلى جدة أو غيرها مما يلي الميقات الذي مرٌ عليه، ولما كانت المواقيت محيطة بالحرم عدا جهة الغرب لمدينة جدة، فلذا لا يجوز تجاوز الميقات للإحرام من جدة إلا للقادم من غربها وهي جهة جنوب مصر وشمال السودان.

الدليل الثاني: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما فتح هذان المصران أي الكوفة والبصرة أتو عمر فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا فقال: انظروا حذوها من طريقكم فحدّ لهم ذات عرق) (٢).

وجه الدلالة: إن الإحرام يكون في الميقات أو حذوه، وجدة ليست محاذية لأحد المواقيت فمسافتها إلى مكة أقرب كما تقدم، فلا تكون ميقاتاً إلا للقادم من غربها مباشرة لعدم وجود محاذى به قبل جدة.

الدليل الثالث: أن جدة كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخذها ميقاتاً ولو كانت من المواقيت لنص عليه النبي صلى الله عليه وسلم لاسيما مع قرب موقعها ووضوحه وأهميته (٣).

وأجيب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعلها ميقاتاً لكون جهتها غير مأهولة بالسكان ولم يكن حينذاك مسلمون في جنوب مصر وشمال السودان وجهتهما في أفريقيا.

وأجيب عن هذا الجواب: بأن ذلك مُنّزل على جهة غرب جدة، ونحن نقول بأنها ميقات للقادم من غربها، أما القادم من الشمال أو الجنوب أو الشرق فليست ميقاتاً له بل ميقات ما يمر عليه من المواقيت أو يحاذيه.

أدلة القول الرابع:

استدل أصحاب هذا القول بأدلة القول الثالث نفسها إلا أنهم لم يستثنوا جهة غرب جدة.

ويجاب عليهم: بأنهّ يشكل على قولهم القادم من غرب جدة، فإنّه لا يمر بميقات ولا يحاذي ميقاتاً، وأول منزل له هو مدينة جدة، ولا ينضبط إحرامه قبلها في البحر، ومسافتها مقاربة لمسافة أقرب المواقيت وهو قرب المنازل وقد نص الفقهاء أن من كانت هذه حاله فإنه يحرم من مسافة مرحلتين عن مكة؛ لأنها مسافة أدنى المواقيت إلى مكة (٤).

رابعاً: يتبين مما تقدم مايلي:

١ - أن الخلاف في المسألة قوي، وإن كانت كفة القول الثالث عندي أرجح، لقوة دليله.

٢ - أن مدار المسألة يقوم على تفسير المحاذاة الواردة، مما يستدعي مزيد بحث لها، مع كون تفسيرها من أهل العلم اجتهاد ظاهر في دلالة النص، وليس نصا.

٣ - أن القول بتوقيت جدة لا يلزم منه جواز الإحرام منها مطلقا، فالأئمة الأربعة متفقون على أنه لا يجوز لمريد النسك مجاوزة ميقاته لميقات آخر لظاهر النص "هن لهنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة" (٥) فإن كان غير ميقاته جاز له مجاوزته عند الحنفية والمالكية.


(١) رواه البخاري في كتاب الحج "باب مهل أهل مكة للحج والعمرة "برقم (١٥٢٤) ومسلم في الحج باب مواقيت الحج والعمرة رقم (١١٨٢).
(٢) تقدم في أعلى البحث.
(٣) انظر تفسير ابن كثير ١/ ٧٧ حيث أشار لوجود جدة منذ خلق آدم كما في أثر الحسن البصري، وقال في معجم ما استعجم ١/ ٣٧١ عن جدة: (هي ساحل مكة).
(٤) ينظر الدر المختار٢/ ١٥٤، وقال في تحفة المحتاج٤/ ٤٢.
(وإن) لم يحاذ شيئا من المواقيت (أحرم على مرحلتين من مكة) ; لأنه لا ميقات دونهما وبه يندفع ما قيل قياس ما يأتي في حاضر الحرم أن المسافة منه لا من مكة أن يكون هنا كذلك ووجه اندفاعه أن الإحرام من المرحلتين هنا بدل عن أقرب ميقات إلى مكة وأقرب ميقات إليها على مرحلتين منها لا من الحرم فاعتبرت المسافة من مكة لذلك لا يقال المواقيت مستغرقة لجهات مكة فكيف يتصور عدم محاذاته لميقات فينبغي أن المراد عدم المحاذاة في ظنه دون نفس الأمر ; لأنا نقول يتصور بالجائي من سواكن إلى جدة من غير أن يمر برابغ ولا بيلملم ; لأنهما حينئذ أمامه فيصل جدة قبل محاذاتهما , وهي على مرحلتين من مكة فتكون هي ميقاته).
قال في شرح منتهى الإرادات١/ ٢٥٥:
(وإذا لم يحاذ ميقاتا) كالذي يجيء من سواكن إلى جدة من غير أن يمر برابغ ولا يلملم لأنهما حينئذ أمامه, فيصل جدة قبل محاذاتهما (أحرم عن مكة بقدر مرحلتين) فيحرم في المثال من جدة لأنها على مرحلتين من مكة لأنه أقل المواقيت.
(٥) رواه البخاري في كتاب الحج "باب مهل أهل مكة للحج والعمرة "برقم (١٥٢٤) ومسلم في الحج باب مواقيت الحج والعمرة رقم (١١٨٢).
المصدر: موقع المسلم

<<  <  ج: ص:  >  >>