للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢٨ - الإصغاء إلى ألحان النشيد، والشوق والحنان إليها، والراحة النفسية، والاطمئنان القلبي حين سماعها، أكثر من سماع القرآن الكريم، وسبب ذلك أن في القلب فراغ وجوع روحي، ومتى استفرغه المرء في سماع الشعر مجردا أو ملحنا - النشيد -، أو القصص المقروء أو المشاهد - التمثيل - أو غير ذلك مما يحصل به تغذية النفوس والأرواح، لم يبق بعد ذلك مكان لسماع القرآن الكريم (١).

٢٩ - جعل النشيد بديلاً وعوضاً عن الغناء، يُترنم به في كل وقت وحين، والصواب أن البديل الإسلامي للغناء، والذي يحصل به استغناء القلب وغذاؤه وعافيته هو القرآن الكريم، قال ابن الأعرابي (٢) - رحمه الله -:"إن العرب كانت تتغنى بالركباني - وهو النشيد بالتمطيط والمد - إذا ركبت الإبل، وإذا تبطحت على الأرض، وإذا جلست في الأفنية، وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يكون القرآن هجيرانهم مكان التغني بالقرآن، فقال: (ليس منا من لم يتغنى بالقرآن) (٣).

٣٠ - الخلط والجمع بين قراءة القرآن وتلاوته، وبين إنشاد الشعر وتلحينه في مكان وزمان واحد، وهذا من إحداث جهال الصوفية المتأخرين، ولم يكن من فعل سلف الأمة المقتدى بهم، المشهود لهم بالخيرية، بل كان - زيادة في التحرز - ينهى بعض السلف عن خلط القرآن بالشعر، قال أبو بكر الخلال في كتابه (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (٤): "عن الرجل يكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) أمام الشعر، فكأنه لم يعجبه - أي الإمام -، وقال حدثنا حفص عن مجالد، عن الشعبي قال: كانوا يكتبون أمام الشعر: (بسم الله الرحمن الرحيم) وقال: بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن الكريم، فما بال القرآن يُكتب مع الشعر؟ وقال: هذا حديث أنس: (أنزلت عليّ سورة، وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم) وهو حجة ألا يكتب أمام الشعر".

٣١ - التغذي بالأصوات المطربة الملحنة في النشيد (٥)، جاء في مقدمة أناشيد الكتائب (٦): "إنه - أي صوت المنشد أبي مازن - صوت ينبعث من أعماق الجنان، فيسمو بالنفس ويرقى بالروح، ويعمل على بعث معاني الحق، وتجديدها في النفس"، وجاء في مقدمة نشيدنا (٧) في مدح صوت المنشد أبي الجود نظما:

ينساب صوتك في روحي فيرشفها شهدا تسامر على خمر العناقيد

ولا ريب أن الأصوات العذبة بمجردها، وكذا النغمات الموزونة، والألحان الجميلة، ليست مما يتقرب به إلى الله، ولا مما تزكى به النفوس وتطهر، فإن الله شرع على ألسنة المرسلين كل ما تزكو به النفوس وتطهر من أدناسها وأوزارها، ولم يشرع على لسان أحد من الرسل في ملة من الملل شيئا من ذلك، وإنما يأمر بتزكية النفوس بالألحان من لا يتقيد بمتابعة الرسل من أتباع الفلاسفة، كما يأمرون بعشق الصور، وقد أنكر الإمام ابن القيم - رحمه الله - وغيره على المتصوفة المبالغة في مدح الألحان وجعلها أمراً واجباً أو مُستحباً. قال ابن القيم (٨) - رحمه الله -:"قال إمام الزنادقة ابن الراوندي: اختلف الفقهاء في السماع، فقال بعضهم: هو مباح، وقال بعضهم: هو محرم، وعندي: أنه واجب، ذكره أبو عبد الرحمن السلمي عنه، في مسألة السماع، واعتد به، وكذلك شيخ الملاحدة وإمامهم ابن سينا في الإشارات (٩) أمر بسماع الألحان وعشق الصور، وجعل ذلك مما يزكّي النفوس ويهذبها ويصفيها، وقبله ومعهم معلمهم الثاني أبو نصر الفارابي، إمام أهل الألحان".


(١) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " وذلك خاص بما إذا كان السبب الدافع له هو مجرد التلذذ بالصوت الملحن والاشتياق إليه، فأما إن كان قصده المعاني والمحتويات التي تضمنها ذلك النشيد، وما فيها من الزجر والتخويف والوعظ والوعد والوعيد، أو بيان الأحكام، وتوضيح الأدلة، فإن ذلك محمود، ولا يكون شاغلاً عن سماع القرآن والذكر والخير ".]
(٢) انظر: المجموع المغيث (٢/ ٥٨١).
(٣) رواه البخاري في صحيحه، انظر: الفتح (١٣/ ٥٠١).
(٤) (ص: ١٦٦).
(٥) [الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: " وقد ورد الأمر بتحسين الصوت بالقرآن في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن لم يتغن بالقرآن فليس منا) وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى بحسن صوته وقال: (لقد أُوتي مزماراً من مزامير آل داود).
فمن هذه الأحاديث استحب للقراء أن يُحسنوا به أصواتهم، وقد شوهد تأثير السامعين لمَن رُزق صوتاً حسناً، وإكبابهم على استماع قراءته، وتأثرهم به، ورقة القلب ودمع العين عند سماعه، وهكذا إذا سمعوا قصائد وعظية أو زهدية، وكان الناظم لها أو المسجل من ذوي الصوت الحسن الرقيق، كان تأثيرها في القلوب أبلغ، ولا يكون ذلك شاغلاً عن سماع كلام الله تعالى، وقراءته، والله أعلم ".]
(٦) (ص: ٦).
(٧) (ص: ٣٥).
(٨) الكلام على مسألة السماع (٢٦١ - ٢٦٢).
(٩) انظر: الإرشادات والتنبيهات (٤/ ٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>