للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالتأكيد: لا يمكنُ أبداً أن تنجحَ دولةٌ هذا نظامُها. لأجل ذلك قلنا: لا يسوغ شرعاً ولا يجوزُ -في حال الاختيار- طرح أحكام الشرع المطهَّر للتصويت. لأن ثمرة هذا التصويت لن يكون لها قيمة في حكم الإسلام، وليس لها أيةُ أثرٍ قانونيٍّ إلا بحُكم القوةِ والإكراه.

وهذا كلُّه في التصويت على قانونٍ واحدٍ مناقضٍ للشرعِ. أما التصويت على نبذِ مرجعيَّة الشريعة كلِّها فذاك أمرٌ أنكَرُ وأبطَلُ. ومتى حصل هذا، فإن الدولة تفقِدُ شرعيَّتها أصلاً، والمجلس التشريعي يفقد شرعيَّته أيضاً. فلا فرقَ بين حاكمٍ فَرْدٍ ينبُذ الشرعَ، أو مجلس تشريعيٍّ يمارسُ العملية نفسها. وهذا مقتضى قول الله تعالى: (إن الحكمُ إلا لله).

تلك هي البدهية الشرعية التي لم يدرك بعضُ الناسِ آثارها القانونية في نظام الإسلام. فالحكومات حين تنبذُ مرجعية الإسلام بالقوةِ أو بالتصويت، ثم تحولُ بين الناس وبين الاحتكام إلى دينهم، فالنتيجة سقوط شرعية الحكومة، لا سقوط سيادة الإسلام.

ولمزيدٍ من التوضيح، دعونا نسأل أصحاب نظرية (سيادة الأمة): حين يأتي التشريع المناقض لدين الله من خلال تصويتٍ نزيهٍ يعبِّرُ عن ذاك الشيء الذي تسمُّونه (سيادة الأمة)، فما موقفكم منه؟

هم يقولون: سنسعى لإبطاله عبر تصويتٍ آخر. لكن ما موقفهم إذا لم يستطيعوا ذلك. هل سيتركون ما أمرهم الله به، ويلتزمون القانون الناشيء عن (سيادة الأمة)، فينتهكون به الدماء والأعراض والأموال المعصومة؟

وإذا كان أحدُهم في موقع السلطة التنفيذية، هل سيُلزِمُ الناسَ بهذا التشريع المناقض لدين الله والمستند إلى (سيادة الأمة)؟

وإذا كان في موقع القضاء: هل سيقضي بسجن ومعاقبة من اختار دينه، فأطاع الله وعصى القانون الصادر عن مجلسٍ تشريعيٍّ منتخَبٍ يمثِّلُ (سيادة الأمة)؟

هذه التساؤلات هي ما سيقرِّبُ ويشرحُ الخلل الضخم في فكرة (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة). وهذا المعنى هو ما قصدتُ تقريبه في مقالة (مهزلة العقل "التنويري").

مرجعية الشريعة وسيادتها، تعني أن شرعية الأفعال والتصرفات والدول، وحدود الحقوق والالتزامات تقاسُ بالشريعة، وليس بقرار بشرٍ، فرداً كان أو جماعةٍ. مرجعية الشريعة في الدولة المسلمة مادةٌ دستورية أو (فوق دستورية) كتبها الله في كتابه، فلا يغيرها تصويتٌ ولا اقتراعٌ. وتعطيل هذه المادة (بالقوَّةِ أو بالتصويت)، لا يعني أن آثارها القانونية انتهت. فالتشريع الذي يعطلُ عقوبة القصاص من قاتل العمدِ -مثلاً- ويكتفي بسجنِه، لن يكونَ له أثرٌ في إثبات عصمة دماء القتلة. فمتى سقط هذا التشريع، أو سقطت الدولة التي فرضته، وجاءت دولةٌ تلتزم مرجعيَّة الشرع، فحقُّ القصاص ثابتٌ، وليس لأحدٍ أن يقول: إن الجريمة وقعت قبل اعتماد الشريعة مرجعاً. وقس على ذلك سائر الأحكام والتشريعات الإسلامية. فتعطيلها عملياً، لا يعني أن آثارها في عصمة الدماء والأموال وإثبات الحقوق انتهت.

نقطة أخرى حصل فيها خلطٌ كثيرٌ:

أصحابُ فكرة (سيادة الأمة) يحسبون أنا إذا قلنا إن على الحاكم المتغلِّب أن يلتزم شرع الله في حكمه، فنحن نمنحه حقَّ اختيار الشريعة أو نبذها، فلذلك صاروا يقترحُون ويقولون: لماذا لا نجعل حقَّ اختيار الشرع ونبذه منوطاً بالأمة بدل أن نجعله لفردٍ متغلبٍ؟!

ما لم يفهمه هؤلاء: أننا نحنُ حين نطالب المتغلِّب بالتزام شرع الله، فإنما نطلبُ منه التزام أمرٍ واجبٍ عليه ولازمٍ له، ولسنا نخيره كي يحكمَ بدين الله أو ينبذه. فلا يصلح أن يقارَن حالُنا بحالِ من يريدُ إقرار حقِّ رفض مرجعية الإسلام عبر التصويت.

<<  <  ج: ص:  >  >>