للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نحن نقول للمتغلِّب: لا خيار لك سوى الحكم بشرع الله. وإن لم تفعل فلا شرعية لنظامك عندنا. بل إن الشرعية ستكون لمن يقدرُ على خلعك واقتلاعك من كرسيك، ومحاكمتك على جنايتك العُظمى حين حرمتَ المسلمين من الاحتكام لدينهم.

فهل هذا التصوُّر الشرعيُّ الواضحُ، يماثلُ موقف الآخرين من ذلك الشيء الذي يسمونه (سيادة الأمة)، حين جعلوا له حقَّ اختيار الشريعة، وحقَّ رفضها ووطئها بالأقدام؟

هم يريدون مجلساً أو صناديقَ تملك الحقَّ في نبذ دين الإسلامِ، ثم يكون على الناس السمعُ والطاعة، بعدما يرتبون على قرار الصناديق الحقوق والالتزامات.

فرقٌ كبيرٌ بين من يطالب الحاكمَ المتغلب بالتزام الشرع، وبين من ينصبُ -باختياره- مجلساً تشريعياً أو استفتاءً يملك الحقَّ القانوني في نبذ وإقصاء دين الله بطريقةٍ (حضارية!!).

حسناً ... لقائلٍ أن يقول: لكن هذا الفرد المتغلِّب قد يحكم بالشريعة اليومَ، وينبذها غداً؟

نرجع لنقول ونكرِّر: ومن قالَ إننا منحناه الحقَّ في ذلك، أو فوضناه فيه ... فهل نسيتم أنكم تتحدثون عن (متغلِّب)؟ ... هل تفهمون ما معنى (متغلبٍ)؟

أنتم تتحدثون عن حاكمٍ فرضَ سلطانه بالقوَّةِ، ولم يكن لأحدٍ خيارٌ في نصبه وتمكينه. فإذا أمَرْناهُ بالتزام شرعِ الله في حكمه وقضائه وتشريعاته، فهل يعني هذا أنا منحناه تفويضاً بنبذ الشريعة متى شاء؟ هل يمكن لعاقلٍ أن يفكر بهذه الطريقة؟

إن قلتم: نريدُ ضمانات تقطع على هذا المتغلِّب السبيل كي لا يجعل الشرع ألعوبةً بيده، فيأخذ به متى شاء، وينبذه متى شاء؟

مرةً أخرى سنقول: تذكروا أنكم تتحدثون عن (متغلِّبٍ) لا يرى نفسه ملزماً بمطالباتكم. فإن استطعتم إقناعه أو إلزامهُ بضماناتٍ تحفظ شرع الله من عبثه، فنحن معكم، بل سنكون قبلكم في هذا الطريق ... لكن في الواقع أنتم لا تفعلون هذا.

أنتم لو أطاعكم هذا المتغلِّبُ، فلن تطلبوا منه تصويتاً لتشكيل مجلسٍ يراقب التزامه بشرع الله. بل ستطلبون منه تصويتاً أو مجلساً يملك الحقَّ في نبذ شرع الله!

أنتم تريدون نقلَ حقَّ العبث بالشرع، من قصر الرئاسة إلى قبة البرلمان!

أما نحنُ فلو أطاعنا هذا المتغلِّب، أو قدرنا على إلزامه، فسوف ننصبُ فوقه مجلساً يراقب التزامه بالشرع، ويملك حقَّ عزله ومحاسبته لو نبذ مرجعية الإسلامِ ورفض الاحتكام إليه.

فهل أدركتُم الفرقَ بيننا وبينكم الآن؟

نحن مرجعية الشرع لدينا محسومةٌ، وإنما نبحثُ عمَّن يحولها إلى واقعٍ عمليٍّ. أما أنتم فمرجعية الشريعة عندكم محلُّ بحثٍ ونظرٍ، وتصويتٍ واقتراعٍ.

نحن نريدُ مرجعية الإسلام. وأنتم تريدون مرجعية صناديق الاقتراع.

نحن نريدُ (كلمةَ الله) هي العليا. وأنتم تريدون (الحرية) هي العليا.

بكلمةٍ أوضح: أنتم شربتم الكأس الليبرالية دون شعورٍ، فأسكرت عقولكم وقلوبكم، فصرتم تطالبون بحرية (نبذ الشرع)، تحت شعار (المحافظة على الشرع)!

فإن أردتم برهاناً إضافياً بشرحُ الإشكال لديكم، فاقرأوا معي الفقرة الآتية:

أنتم تستدلون بآية: (لا إكراه في الدين) كي تسندوا رأيكم في عدم جواز الحكم بشريعة الإسلام دون تصويتٍ واستفتاءٍ. فهلا أخبرتمونا من أين تسرَّب إليكم هذا الفهمُ للآية؟

تلك الآيةُ الكريمةُ إنما يستدلُّ بها في هذا الموضع ذاك الليبرالي والعلماني الذي يأبى أن يستندَ نظامُ الدولة لمرجعية دينيةٍ، سواءٌ جاءت هذه المرجعيَّة عبر فردٍ متغلِّبٍ، أو عبر صناديق الاقتراع، لأنه يرى الدين التزاماً شخصياً لا يجوز إقحامه في مرجعيَّة الحكم بأي طريقٍ.

تلك هي الرؤية الليبرالية العلمانية المعروفة، ومنها انطلق أصحابها في تفسير خاطئ لآية: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .. } [البقرة: ٢٥٦]، كي يثبتوا أنه لا يجوز أن يستند نظامُ الحكم لمرجعية دينيةٍ.

لكن ماذا عنكم أنتم يا من تريدون فرضَ مرجعيةِ الدين عبرَ صناديق الاقتراع؟ هل يصلح لكم أن يستندَ لمثل هذه الآية؟

أصحاب نظرية (سيادة الأمة) متى حصلوا على أغلبية الثلثين مثلاً، ونجحوا في تثبيت مرجعية الشريعة في الدستور، فهم - في النهاية - سوف يُلزِمُون الثلث المتبقي بمرجعية الشريعة الإسلامية. أي أنهم سيمارسون (الإكراه في الدين)! ولا مفرَّ لهم من هذه الحقيقة إلا أن يراجعوا فهمهم للآية الكريمة، فيكفُّوا عن قراءتها بأعينٍ ليبراليةٍ علمانيةٍ.

تلك الآية الشريفة لا علاقة لها بنصب الشريعة مرجعيةً لنظام الحكم. فهي إنما تتحدثُ عن إكراه الكافر على اعتناق دين الإسلام. وأما اعتمادُ مرجعية الشرعِ، فليس هذا من الإكراه الممنوع في الآية. ومن أصرَّ على هذا الفهم، فإن عليه ألا يحكم بشريعة الإسلام حتى يحصل على تأييدٍ كليٍّ يبلغ نسبة (١٠٠%) من الأصوات! وحتى بعد الحصول على هذه النسبة الخرافية، فليس للقاضي في المحكمة أن ينزل أيَّ عقوبةٍ شرعيةٍ إلا بعد إقناع الجاني بقبُولها، كي لا يمارس عليه الإكراه في الدين باسم سيادة الأمة!

<<  <  ج: ص:  >  >>