للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي بساطة نتساءل ما المقصود بأن الحقيقة نسبية؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعمله قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكاً شاملاً، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذا الفترة القصيرة من عمرها على الأرض.

وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة، وكل ما عنده من حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها، فأول ما يواجه هذا القول من نقد أن يُسأل: ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قُدمت الأدلة على صدقه وأثبتت أنه حقيقة، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها، وهو اعتراف ينقض ما قُدمت الأدلة لإثباته، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي أيضاً ولا يمكن القطع والجزم به، فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول إن الحقيقة نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وعصورهم؟!

الأهم من ذلك أن يُسأل: هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين، أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه، بل هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة "ذوق"، لا تقوم على منهج علمي محدَّد، أو معايير منضبطة؟!.

إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدَّد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك.

قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص، أو قد يحدث خطأً في الفهم، أو يحدث خطأ في الاستنباط، ولكن هذه مسألة أخرى، ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف بالدليل والبرهان، أما إطلاق العموميات، والقول بأنَّ حقائق الدِّين مسألة نسبية يدركها كلٌ على حسب المعرفة المتاحة، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية! فقول لا تسنده حجَّة، ولا يمكن قبوله» (١).

ويقول الأستاذ غازي التوبة: «نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة، وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة» (٢).

ثانياً / منشأ القول بـ" نسبية الحقيقة ":

هذا القولُ أنشأه الفلاسفة السوفسطائيون (٣) - وعلى رأسهم الفيلسوف بروتاغوراس - الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد؛ حيث كانت اليونان تغرق في بعضِ الأفكارِ المتباينة، والمذاهب المتنوعة؛ فلجؤا إلى هذا القَولِ في تأييدِ الآراءِ المتناقِضَة؛ إما شكاً في الجميع، أو تخلصاً من جُهد طلب الحقيقة.


(١) مفهوم تجديد الدين، بسطامي سعيد، ص ٢١٤ - ٢١٥، بواسطة: كتاب (التطرف المسكوت عنه) للدكتور ناصر الحنيني.
(٢) مجلة المجتمع، العدد ١٣٣٧، بواسطة: مقال (ثقافة التلبيس٩: قولهم بنسبية الحقيقة).
(٣) السوفسطائية: مأخوذةٌ من السفسطة، وهي: قياس مركب من الوهميات، وهم طائفة من فلاسفة اليونان ممن ينكرون الحسيات والبدهيات، ومعناها باليوناني: (سوفا) اسم للعلم، و (اسطا) اسم للغلط، فسوفسطا: معناه علم الغلط، ومثَّلوا لإنكارهم الحسيات بَأنَّ الأحول قد يرى الواحد اثنين، والماشي يرى القمر ذاهبًا؛ وعليه فلا يجزم بَأنَّ أيهم يعرف حقاً وأيهم يريد باطلاً. انظر: التعريفات للجرجاني ص١٥٨، مجموع الفتاوى (٢/ ٩٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>