للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «حُكي عن بعض السوفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد» (١).

يقول الدكتور علي سامي النشار: «نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة: "إن الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكَّاك بعد، فطبقوها على الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو مستقرة، بل كل شيء -كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر» (٢).

وقد أظهر أفلاطون هذا المبدأ، فقال: " تظهر الأشياء لي، كما توجد بالنسبة لي، وتظهر الأشياء للآخرين، كما توجد بالنسبة لهم " فالنسبية تقرر أنه لا يوجد هناك حقيقةٌ مطلقة، فما أعتقده فهو حقيقة بالنسبةِ لي، وما تعتقده هو الحقيقة بالنسبةِ لك، فليس هناك خطأ.

يقول الدكتور عمر الطباع عن السوفسطائيين: «وكانت هذه الجماعة تنكر وجود حقائق ثابتة، وتدعي أن الحقيقة نسبية» (٣).

«لقد عبَّر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه: "عن الحقيقة" الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله: "إن الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعاً" وفي هذه العبارة القصيرة تكمن الثَّورةُ الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر.

إنها تعني بالنسبة لنظريةِ المعرفة أنَّ الإنسانَ الفرد هو مقياسُ أو معيار الوجود، فإن قال عن شيءٍ إنه موجود فهو موجود بالنسبة له، وإن قال عن شيء إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له أيضاً، فالمعرفة هنا نسبية، أي تختلفُ من شخصٍ إلى آخر بحسب ما يقع في خبرةِ الإنسان الفرد الحسيَّة، فما أراه بحواسي فقط يكون هو الموجودُ بالنسبة لي، وما تراه أنتَ بحواسِّكَ يكون هو الموجود بالنسبة لك، وهكذا .. » (٤).

* موقف العلماء من السوفسطائية.

لقد قسم علماءُ الإسلام السوفسطائيين - كما يقول الشيخ أحمد شاهين - إلى ثلاثةِ أقسام: «العِندية، والعنادية، واللاأدرية: فالعندية ترى أن حقائق الأشياء تابعة لعقائد المؤمنين بها؛ لأنهم أقيسة الحقائق. والعنادية تجزم بأن لا حقائق في الكون؛ لا في ذاتها ولا بالقياس إلى المؤمنين بها. وأما اللاأدرية فهي التي تتوقف عن الحكم في كل شيء؛ فهي لا تجزم بوجود ولا بعدم» (٥).

ويقول الشيخ عبد القادر بدران في حاشيته على "روضة الناظر": «وهم فرقٌ ثلاث: إحداهن اللاأدرية؛ سموا بذلك لأنهم يقولون لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه، بل نحن متوقفون في ذلك. الثانية: تسمى العنادية نسبة إلى العناد؛ لأنهم عاندوا فقالوا لا موجود أصلاً، وعمدتهم ضرب المذاهب بعضها ببعض، والقدح في كل مذهب بالإشكالات المتجهة عليه من غير أهله.

الثالثة: تسمى العندية نسبة إلى لفظ "عند"؛ لأنهم يقولون أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس، فكل من اعتقد شيئاً فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده» (٦).


(١) الفتاوى ١٩/ ١٣٥.
(٢) مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص ١٩١، بواسطة: كتاب (التطرف المسكوت عنه).
(٣) السلم في علم المنطق للأخضري، ص٧.
(٤) مدخل لقراءة الفكر الفلسفي عند اليونان، د. مصطفى النشار، ص٧٠ - ٧١، بواسطة: كتاب (التطرف المسكوت عنه).
(٥) السوفسطائيون في نظر العرب، مقال في مجلة الأزهر، م ٢١، ص ٧٦٠ - ٧٦٣، بواسطة: مقال (ثقافة التلبيس٩: قولهم بنسبية الحقيقة).
(٦) حاشية ابن بدران على روضة الناظر، ص ٢٤٦ - ٢٤٧، بواسطة: مقال (ثقافة التلبيس٩: قولهم بنسبية الحقيقة).

<<  <  ج: ص:  >  >>