للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد استشعر علماءُ الإسلام خطرَ هذه الفكرة السوفسطائية الفلسفية، والتي تَخلط الحقَّ بالباطل، وتزرع الشكَّ في عقائدِ المسلمين، وتساوي بين الإسلام وغيره من الديانات المحرَّفة والباطلة بدعوى التماس الحقيقة.

لا سيما وأنَّ هناك من المنحرفين من يَزرع هذه الفكرة وينشرها؛ وعلى رأسهم غُلاة المتصوِّفة أهل وحدة الوجود، ممن يقول قائلهم؛ وهو ابن عربي: " فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك الأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها؛ فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد " (ابن عربي، سميح الزين، ص١٠١) (١).

وقد ردَّ عليهم الإمام ابن حزم - رحمه الله - في كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل "، والمهم منه الرد على فرقة " العِندية " لكونها الفرقةُ التي يُقلِّدها دعاةُ النسبية. قال رحمه الله: «ويقال - وبالله التوفيق - لمن قال هي حقٌ عند من هي عنده حق، وهي باطلٌ عند من هي عنده باطل: إن الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل، وإنما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً، سواء اعتُقد أنه حق، أو اعتقد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدوماً موجوداً في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال.

وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق، فمن جملة تلك الأشياء التي تُعتَقد أنها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق بطلانُ قولِ من قال إن الحقائق باطلة، وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق. وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء، فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق!!، مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة، إذ حسُّه يشهد بخلافها. وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المتنطِّعين على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق» (٢).

وقال الموفَّق ابن قدامة - رحمه الله - رادَّاً على من نُقل عنه مثلَ هذا القول من العلماء: «وقول العنبري: "كل مجتهد مصيب". إن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده، فمحال؛ إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقاً، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها. فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية؛ فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات» (٣).

وقال - أيضًا -: «قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب ما يروق لهواه» (٤).

وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة؛ يعني: أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه ... وأما كون آخره زندقة فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب وإن شاء أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفر وزندقة» (٥).


(١) انظر: مقال (ثقافة التلبيس٩: قولهم بنسبية الحقيقة).
(٢) الفصل في الملل والأهواء والنحل ١/ ١٧.
(٣) روضة الناظر ٣/ ٩٨١.
(٤) روضة الناظر، ٣/ ٩٩٠.
(٥) الفتاوى ١٩/ ١٤٤ - ١٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>