للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد تحدَّث عنهم الإمامُ ابن الجوزي - رحمه الله - في " تلبيس إبليس " قائلا: «قال النوبختي: قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها، فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مراً، ويجده غيره حلواً. قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه، محدث عند من اعتقد حدوثه، واللون جسم عند من اعتقده جسماً، وعرض عند من اعتقده عرضاً. وهؤلاء من جنس السوفسطائية؛ فيقال لهم: أقولكم صحيح؟ فسيقولون: هو صحيح عندنا، باطل عند خصمنا. قلنا: دعواكم صحة قولكم مردودة، وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم! ومن شهد على قوله بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه» (١).

ويقول العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: «أعظم الناس انحرافاً عنهما - أي الكتاب والسنّة - ملاحدة الفلاسفة، وزنادقة الدهريين، وهم أكبر أعداء الرسل، في كل زمان ومكان .. »، ثم بين رحمه الله أنهم أصّلوا أصولاً ووضعوا قواعد من عند أنفسهم زادت انحرافهم انحرافاً فقال: «أعظمها - أي هذه الأصول - أصلٌ خبيثٌ منقولٌ عن معلّمهم الأول (أرسطو) اليوناني المعروف بالإلحادِ والجحد لرَبِ العالمين والكفرِ به وبكتبه ورسله، وهذا الأصل الذي تفرع عنه ضلالهم: أنه من أراد الشروع في المعارف الإلهية، فليمحُ من قلبه جميع العلوم والاعتقادات، وليسع في إزالتها من قلبه، بحسب مقدوره، وليشك في الأشياء، ثم ليكتفِ بعقله، وخياله ورأيه» (٢).

ثالثاً / " نسبية الحقيقة " في الفكر الليبرالي:

ومبدأ " نسبية الحقيقة " في الفكر الليبرالي، قائمٌ على أساسها العَام الذي هو (الحرية)، فإنَّ إشكالية هذا الفكر قبول التلوُّن والتعدد الصوري، فهو قائم على عدم الجزم والقطع، وهذه مهمة الفيلسوف الليبرالي في حل المشكلات، يقول (رسل): «إن الفيلسوف الليبرالي لا يقول: هذا حق، بل يقول في مثل هذه الظروف: يبدو لي أن هذا الرأي أصح من غيره» (٣).

ويعتقد الليبراليون أن توسيعَ الخلاف، والتعدديةُ في الآراءِ والأفكار ظاهرةٌ إيجابيةٌ تنمِّي الفِكَر، وتقوِّي الرأي، وتُظهر الإبداع. ومن لوازم حريةِ الفكر عندهم: اعتقاد عدم امتلاك (الحرية المطلقة)؛ لأن دعوى امتلاكِ هذه الحقائق يمنع من التفكير الحُر، فالإيمانُ المطلق الذي لا يعتريهِ أدنى شَكٍ لا يتوافق مع الفكر الليبرالي الذي لا يبني عقيدةً محددةً يقينية؛ لأن ذلك يُناقض حريةَ الفِكر والمناقشة حَسْبَ وجهةِ نظرهم (٤).

يقول الكاتب يوسف أبا الخيل متحدثاً عن (مُسلَّمة) تفرضها الضرورة المنطقية: «ألا وهي مفهوم أو فلسفة (نسبية الحقيقة) التي تعني أن الحقيقة بما هي (كل مطلق متعال) فالفرد إزاءها لا يملك فيما يملكه من معارف ومعتقدات ومشارب وآراء واتجاهات فكرية إلا جزءاً من هذه الحقيقة الكلية التي تتعدد جزئياتها ومفرداتها بتعدد زوايا النظر للموضوع المراد بحثه، هذا الجزء من الحقيقة الذي يملكه الفرد قد يماثل أو يقل أو يزيد عما يملكه الآخر المختلف، ولكنه في النهاية يظل جزءاً يزيده ويثريه ولا يلغيه» (٥).


(١) تلبيس إبليس، ص٤١.
(٢) الأدلة القواطع ص٤، بواسطة: بحث على الشبكة بعنوان (التعددية الفكرية عند محمد بن علي المحمود) لصالح السويح.
(٣) نقلاً عن: الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس ص ٩٣، بواسطة: كتاب (حقيقة الليبرالية).
(٤) كتاب (حقيقة الليبرالية) ص٥٦.
(٥) من مقال له بعنوان: (سنة أولى حوار) جريدة الرياض، الاثنين ٣ محرم ١٤٢٥ هـ - ٢٣ فبراير ٢٠٠٤م، العدد ١٣٠٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>