للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول: «هذه النظرة الإقصائية تأتي بلا شك نتيجة حتمية لتربية طويلة على اعتبار قول وحيد ووسمه بالطابع الشمولي القاطع بحقيقته ويقينيته بلا اعتبار لأية أقوال أو مذاهب أخرى في المسألة المطروحة للبحث إلا باعتبارها ضالة عن الطريق السوي أو مبتدعة في حال التلطف مع أصحابها، لو أننا أشعنا في مرافئ ثقافتنا على اختلاف أنواعها مبدأ نسبية الحقيقة في الأقوال والأعمال والتخريجات والتفسيرات لما كانت هذه حال قطاع كبير ممن يقتاتون على ثقافتنا ويدعون الأحقية بتمثيلها» (١).

ويقول منتقداً (الثوابت) تحت مسمَّى (النظام المعرفي) داعياً إلى استحضار الشَكِّ أمام العقل الناقد بدعوى (نسبية الحقيقة): «يعرف النظام المعرفي (الإيبيستيمولوجيا) بأنه الطريقة أو الآلية أو النظام التي يستقي بها مجتمع ما أو لنقل ثقافة ما النظرة للكون والحياة والعلاقات الفيزيقية والميتافيزيقة بشكل عام.

ولكل ثقافة معينة نظام معرفي خاص بها، وتكاد أن توصف به الحضارة المؤسسة على تلك الثقافة، فيقال مثلاً للحضارة العربية بأنها (حضارة النص) بينما توصف الحضارة اليونانية بأنها (حضارة العقل) وهكذا، وعلى ذلك فإذا كانت الحضارة الإسلامية تتميز بأنها حضارة نص فذلك يعني أنها تعتمد في نظرتها للكون والحياة والعلاقات الإنسانية والاجتماعية على ما توفره النصوص الثقافية بشكل عام سواء الدينية منها أو ما أضيف إليها من مراكمات إنتاجية (تفسيرية وتأولية واجتهادية عامة)، وبالتالي فإن نظامها المعرفي يوفر نظرة نقلية تجاه مكونات الحياة، لكنه قد لا يلقي بالاً لما قد توجبه موجبات العقل تجاه موضوع معين إذا كان يستشف منها (نظرياً على الأقل) اختلافها مع النظرة التي تُستشف من النصوص.

في الحضارة اليونانية كان النظام المعرفي السائد فيها هو النظام البرهاني القائم على فحص مكونات الأمر المعروض للبحث، ومن ثم الحكم عليه أو فيه من زاوية عقلانية بحتة تعتمد النظر والتأمل ومقارنة الأشياء ببعضها وإعطاء رأي غير قاطع فيها باعتبار أن الفكر البشري قائم على الترجيح بين البدائل المتاحة مما يعطي فرصة مستمرة لعرض البديل المقترح على مشرحة النقد المستمرة بحيث يتم الاستغناء عنه عند ما يتقادم به الزمن، ويصبح غير قادر على مسايرة العصر، ميزة النظام المعرفي البرهاني أنه غير متقيد بمقيد ميتافيزيقي فهو يعمل وفق معطيات العقل، وبالتالي ففيه فرصة للخطأ والصواب، وبالتالي تتوفر المراجعة المستمرة التي تعتمد على نظام التغذية المرتدة للمعلومات ( back Feed) » .

ثم يقول: « .. العنف ومن ثم التطرف ينتج غالباً من اعتقاد المجتمع عموماً (وهو ما يربى أفراده عليه بالطبع) بأنه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة عموماً، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم وردهم لحياض الحقيقة المطلقة» (٢).


(١) من مقال له بعنوان: (الاعتبار الإسلامي لغير المسلمين) جريدة الرياض، الأربعاء ٢٣رمضان ١٤٢٦هـ -٢٦أكتوبر ٢٠٠٥م - العدد ١٣٦٣٨.
(٢) من مقال له بعنوان: (النظام المعرفي والهوية الثقافية) جريدة الرياض، الأحد ٢٥ جمادى الآخرة ١٤٢٦هـ - ٣١ يوليو ٢٠٠٥م، العدد ١٣٥٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>