للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم، ذَلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة ٢٨٥] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله ﷿ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة ٢٨٦] قال: نعم. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ [البقرة ٢٨٦] قال: نعم. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة ٢٨٦] قال: نعم. ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة ٢٨٦] قال: نعم) (١). وفي رواية: (قد فعلت) (٢). وهذا على عادتهم في الأخذ بعموم اللفظ، وقد صَحَّ فهمهم ذلك في أوّل الأمر؛ إذ أمرهم رسول الله أن يُسَلِّموا ويطيعوا، فلمَّا كان ذلك منهم خَفَّفَ الله عنهم، وأزال ما في نفوسهم من مشقة بالآيات بعدها؛ بصبرهم وتسليمهم. وإذا عُلِمَ معنى "النسخ" عند السلف كما تقدم، فإن قول ابن عباس في معنى الآية وهو: أن الإنسان مُحاسبٌ على قوله وفعله وما عزم عليه بقلبه، وتقرر في نفسه، واستُصحِبَت الفكرة فيه، دون ما عرض له من الوساوس والخطرات؛ فإنها ليست من كسبه، ولا في وُسعه = هو الراجح، ويدلُّ على صحته أمور:

الأول: أن للقلب كسبًا وعملًا يُحاسَب عليه الإنسان، كما في قوله تعالى ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة ٢٢٥]، وقوله ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [الإسراء ٣٦]، ونحوها من الآيات (٣)، قال النووي (ت: ٦٧٦): (وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمُؤاخذة بعزم القلب المستقر) (٤).


(١) أخرجه مسلم في صحيحه ١/ ٣٠٩ (١٢٥).
(٢) أخرجه مسلم في صحيحه ١/ ٣١٠ (١٢٦).
(٣) ينظر: أحكام القرآن، للجصاص ١/ ٦٥١، والكشف والبيان ٢/ ٣٠٠.
(٤) شرح النووي على مسلم ١/ ٣١٤.

<<  <   >  >>