للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الثاني: أن المذكور في الآية هو الحساب وليس العقاب، وكلُّ عمل الإنسان محصِيٌ عليه في الدنيا، وقد أخبر الله عن المجرمين يوم القيامة قولهم ﴿يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ [الكهف ٤٩] (١)، (وأكّدَ وقوع المحاسبة إيراد الكلام في قالب الشرط؛ الحاكم بتَحَتُّم الجزاء، زجرًا للعبيد عن إلقاء النفس في ورطة المخالفة، وحَثًّا على الموافقة، وفي ذلك -مع إسناد المحاسبة إليه المُؤذن بالاعتناء بها- إرعاب للقلوب، وتخويف العبد من اقتراف الذنوب، فإن مُتَوَلِّي المحاسبة لا يحتجب عن علمه مثاقيل الذَّر، ولا يستعصي عليه أمر) (٢)، وليس يلزم من محاسبة المؤمنين أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب مُؤاخذين؛ (لأن الله ﷿ وعدهم العفو عن الصغائر باجتنابهم الكبائر، فقال في تنْزيله ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء ٣١]، فدَلَّ أن مُحاسبة الله عباده المؤمنين بما هو مُحاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم غير موجبة لهم منه عقوبة، بل مُحاسبته إياهم إن شاء الله عليها لِيُعَرِّفَهم تفضُّله عليهم بعفوه لهم عنها) (٣)، كما في حديث المناجاة الذي رواه ابن عمر عن النبي قال: (يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كَنَفَه فيقرره بذنوبه: (تعرف ذنب كذا؟) يقول: أعرف. يقول: رب أعرف. مرتين، فيقول: (فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) ثم تطوى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمُنافقون، فيُنَادَى بهم على رؤوس الأشهاد ﴿هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود ١٨]) (٤)، وهو ما أشارت إليه الآية بقوله تعالى ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة ٢٨٤]. (٥)


(١) جامع البيان ٣/ ٢٠٢، والتفسير الكبير ٧/ ١٠٩، ومجموع الفتاوى ١٤/ ١٠١، ١٣٣.
(٢) المواهب المُدَّخرة في خواتيم سورة البقرة (ص: ٥٢)، وينظر: المحرر الوجيز ١/ ٣٨٩.
(٣) جامع البيان ٣/ ٢٠٢.
(٤) أخرجه البخاري في صحيحه ٨/ ٢٠٤ (٤٦٨٥)، ومسلم في صحيحه ٦/ ٢٣٨ (٢٧٦٨).
(٥) ينظر: جامع البيان ٣/ ٢٠٣، وتفسير ابن كثير ٢/ ٦٧١.

<<  <   >  >>