للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

رابعًا: أن المعنى في قوله ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران ١٠٢] مُستَقيم ومُتَّسِق مع ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة ٢٨٦]، ومع ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن ١٦]، وهو أمرٌ بالتقوى في حدود وُسعِ الإنسان واستطاعته، فآية التغابن مُبَيِّنةٌ للمراد بحق التقوى، ومن ثَمَّ فلا حاجة للنسخ هنا مع تمام المعنى في كُلِّ آية بذاتها، وتكاملها مع الآية الأخرى؛ إذ كتاب الله تعالى يُفَسِّر بعضه بعضًا، ويدلُّ بعضه على بعض، ونظير هذه الآية قوله تعالى ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج ٧٨] (١).

خامسًا: أن في آية آل عمران أمرٌ بما هو واجبٌ على المسلم، وهو تقوى الله تعالى على حقيقتها، وذلك يتضمن الأمر بعبادة الله وحده، وترك معاصيه كافَّةً، فكيف يقع في ذلك نسخ؟ (٢)، وأُجيب: بأن هذا على معنىً ذكرتموه للآية، أمَّا لو قيل معنى ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران ١٠٢]: القيام بحقوق الله في حال الخوف والأمن، وترك التَّقيَّة فيها. لَصَحَّ أن يُنسَخ ذلك في حال التَّقِّية والإكراه (٣)، كما (أن فعل ما حظر الله في الشرع معصية، مادام الحظر قائمًا، كتحريم الأكل والجماع بعد النوم في الصوم، ثم لمَّا زال الحظر زال كونه معصية، وكذا تقوى الله بغاية ما بَلَغه الجهد، لا يُمنَع أن تُوجَب في وقت فيكون تركها معصية، ثم يُقتَصَر من الناس على مقدار الوُسع، فلا يكون ترك الجهد معصية) (٤).

سادسًا: أن الآيتين مدنيتان، ولم تنْزلا إلا بعد تقرير أن الدين لا حرج فيه، وأن التكليف بما لا يُستَطاع مرفوع، فصار معنى ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران ١٠٢]: فيما استطعتم، وهو معنى


(١) ينظر: زاد المسير (ص: ٢١٤)، والمُصَفَّى بأكف أهل الرسوخ (ص: ٤٤)، وروح المعاني ٤/ ١٨.
(٢) نُقِلَ هذا عن أبي عليّ الجُبَّائي، ينظر: الجامع لعلم القرآن (مخطوط، ص: ٣٥)، وأحكام القرآن، للجصاص ٢/ ٣٦، وتفسير الراغب الأصفهاني ١/ ٧٦٢، والناسخ والمنسوخ، للنحاس (ص: ٩٠).
(٣) الجامع لعلم القرآن (مخطوط، ص: ٣٥)، وأحكام القرآن، للجصاص ٢/ ٣٦.
(٤) تفسير الراغب الأصفهاني ١/ ٧٦٢.

<<  <   >  >>