للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويمكن أن يقال: هذا العالم الذي برزَ وظَهرَ، كان أشدَّ الناس عذابا، لأنه بِفسقه يُضِلّ خَلْقا كثيرا، وأمَّا من لم ييرُز ولكنه علِمَ ولم يعمل، فهو دون الذي ما عَلِم ولا عمِلَ، ففي مثل هذين قيل: الواحد أتى بمعصيتين، والآخر بمعصية واحدة، والله أعلم. (٣٥٧)


(٣٥٧) قلت: في آخر هذه الفقرة إشارة إلى بعض ما جاء عند الإِمام القرافي رحمه الله في الفرق الثالث والتسعين بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح، وقاعدةِ الجهل يقدح، وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه" جـ ٢ .. صفحة ١٤٨.
وقد اختصر الشيخ البقوري رحمه الله هذا الفرق من أصله، ، ولم يأتِ به ملخصا وموجزا كما هو عنده بالنسبة للفروق والقواعد الأخرى التي اشتمل عليها كتابه هذا.
وقد رأيت أن أورد هذا الفرق عند القرافي، وأنقله كما هو، تتميما للكتاب والفائدة، وأجعله ختام التعاليق التي أتيت بها في تحقيق هذا الكتاب ومراجعتِه وتصحيحه، وأن يكون استكمالا لموضوع الفرقِ الرابع والتسعين، نظرا لأهميته كباقي الفروق الأخرى، خاصة وأنه من الفروق القصيرة الجامعة في بيان وجوب التعلم والفقه في الدين، واحتسابه لله تعالى، فقال القرافي رحمه الله في هذا الفرق ٩٣ من كتابه الجليل (الفروق).
"إعلَمْ أن الغزالي رحمه الله حكى الإجماع في كتابه (إحياء علوم الدين)، والشافعي رحمه الله، في رسالته حكاه أيضا في أن المكلف لا يجوز له أن يُقْدِمَ على فِعل حتى يعلَم حكم الله فيه. فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عينَّه الله وشرعه في البيع، ومن أجَرَ وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله في الإِجارة، ومن قارض وجب عليه أن يتعلم حكم الله في القراض، ومن صلَّى وجبَ عليه أن يتعلم حكم الله في تلك الصلاة، وكذلك الطهارة، وجميع الأقوال والأعمال. فمن تعلم وعمِل بمقتضَى ما علِمَ فقد أطاع الله تعالى طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمَلْ فقد عصَى الله معصيتين، ومن عَلِم ولم يَعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله تعالى طاعة وعصاه
معصية.
ويَدُل لهذه القاعدة أيضا من جهة القرآن قول الله تعالى حكاية عن نوح عليه الصلام والسلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} (١)، ومعناه ما ليس في بجواز سؤاله عِلم، فدل ذلك على أنه لا يجوز له أن يقدم على الدعاءِ والسؤال إلا بعدَ علمه بحكم الله تعالى في ذلك السؤال، وأنه جائز، وذلك سبب كَوْن نُوح عليه السلام عوتِب على سؤاله الله عز وجل أن يكون معه ابنُهُ في السفينة، لكونه سأل قبل العلم بحال الولد، وأنه مما ينبغي طلبه أم لا. فالعتْبُ والجواب كلاهما يدل على أنه لابد من تقديم العلم بما يريد الإنسان أن يشرع فيه.
إذا تقرر هذا، فمثله قول الله تعالى (في سورة الاسراء): {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}. نهى الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام عن اتباع غيْر العلوم، فلا يجوز الشروع في شيء حتى يعلَمَ، فيكون طلب العلم فريضة على كل مسلم.
قال الشافعي رحمه الله: طلبُ العلم قِسمانِ: فرضُ عَيْنٍ، وفرضُ كفاية، ففرضُ العيْن علْمُكَ بحالتك التي أنت فيها، وفَرْضُ الكفاية ما عدا ذلك. فإذا كان العِلم بما يُقْدِم الإِنسانُ =

<<  <  ج: ص:  >  >>