للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الثالثة: إذا حلف بأيمان المسلمين فحنِث، فمشهور فتاوى الأصحاب أنها تلزمه كفارة يمين، وعتق رقيقه وإن كثروا، وصومُ شهرين متتابعين، والمشىُ إلى بيت الله في حج أو عمرة، وطلاق امرأته، واختلفوا، هل يكون ثلاثًا أو واحدة، والتصدق بثلث المال، ولا يلزمه غير ما ذكِر. والسببُ في ذلك أن العادة جرتْ بالحلف بهذه الأشياء دون غيرها، إلا أن هذه الأشياء تُفْعل، وغيرها لا يُفْعَلُ، فالاعتبار عندهم للعرف القولي لا للعرف الفعلي.

قال شهاب الدين رحمه الله:

وينبغى للمفتى ألا يطردَ الفتوى أبدًا بهذا، بل يعتبر العرف، إن تغير تغيرت فتواه لأجله، وكذلك الاقاليم المختلفة لا يفتيهم حتى يعرف عُرْفهم، وبحَسَبِه يجيبُ، وإلَّا كان فعله خطأ، وبهذا الوجه يصير التصريحُ في الطلاق كِنايَةً، وتصير الكناية صريحًا، (٥٨) والله أعلمُ.

ومثل هذا إذا قال: أيْمَان البيْعَة تَلْزَمُني، يُنظَرُ إلى عُرفه في العصْر وفي


= ولو قال القائل: رأيت رأسًا لم تختلف الناس أن اللفظ لا يختصُّ برؤوس الأنعام بل يصلح ذلك لكل ما يسمى رأسًا، لغة، بسبب أن هذا التركيب الذي هو رأيت رأسًا لم يكثر استعماله في نوع معين من الرؤوس دون غيره حتى يصير منقولاً، بخلاف أكلت رأسًا، فيقر اللفظ على مسماه اللغوي من غير معارض ولا ناسخ، وكذلك خلق الله رأسًا، وسقطت ووقَعَتْ رأسٌ، وهذه رأس، وفي البيت رأس، جميع هذه التراكيب ونحوها لم يقع فيها نقل عرفي، بخلاف قوله: أكلت رأسًا ونحوه من صِيَغِ الأكل، فإن أهل العرف كثُر: استعمالهم له حتى صار إلى حيز النقل، فقدم على اللغة عند من ثبث عنده النقل، فتأمل هذه المسألة، فكثير من الشراح والفقهاء إذا مر بهذه المسألة يقول فيها: لا يَحْنَثُ بغير رؤوس الأنعام, لأن عادة الناس يأكلون رؤوس الأنعام دون غيرها , ولا تجدُ في الكتب الموضوعة للشراح غير هذه العبارة وهي باطلة, لأنهم يشيرون إلى العرف الفعلىَ الملغى بالإجاع، وإنما المدرك العُرف القولي على ما تقدم تحريره. وقد علق الفقيه ابن الشاط رحمه الله على كلام القرافي هنا بقوله: جميع ما قاله في هذه المسألة صحيح، غير قَوله: "ولا تجد في الكتب الموضوعة للشراح غير هذه العبارة وهي باطلة"، فإنه غيرُ مسَلمٍ، بما سَبَق من أن الاقتصار على بعض مسمى اللفظ في الاستعمال الفعلي من جنس البساط، والله أعلمُ. اهـ.
(٥٨) عقب ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة، ونقله البقوري فيها، بقوله: ما قاله في ذلك صحيح من جهة أن لفظ الأيمان لابد أن تجرى على عادة الحالف أو أهْل بلده تسميَته يمينًا، والله أعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>