للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفائدة الفرق بين أن يكون لفظ الطلاق يفيد الطلاق وضعا أو عرفا، أنا إذا قلنا: وضعاً، فالأصل أن يلزم به الطلاق حتى يأتي ما يدل على أنه لا يراد به ذلك، وإذا قلنا: عرفاً، فالأصل أن لا يلزم به الطلاق حتى يتحقق ذلك العرف في ذلك الزمان، فإن العرف يختلف بحسب العوائد (٥٢).

المسألة الثانية: وقع لمالك في التهذيب وغيره أن قول القائل: "حبلك على غاربك" يلزمه الطلاق الثلاث، ولا تقبل نيته أنه أراد أقل منها. وقال ابن القاسم: قول القائل: أنا منك بائن، وأنت منى بائنة، لا يُنَوي قبل الدخول ولا بعده، بل يلزمه الثلاث. وإذا قال في الخلية والبرية والبائن: لم أرد طلاقا، فإن تقدم في كلامه ما يكون هذا جوابا له صدّقَ، وإلا فلا. وقال الشافعى: النية تابعة لما ينويه من العدد. وقال أبو حنيفة: إن نوى الثلاث لزمه الثلاث، أو واحدة فواحدة، وكذلك قولهما في حبلك على غاربك. وقال ابن حنبل: يقع الطلاق بالخلية والبرية والبائن، وحبلك على غاربك (٥٣) والْحَقى بأهلك، والبتة، والبتْلة بغير


(٥٢) ومثل هذا الكلام نجده هنا كذلك عند ابن الشاط بعد نفيه وسلبه الصحة عما جاء في كلام القرافي في المسألة، فقال: فإنه كما يتبدل العرف من العرف، كذلك يتبدل العرف من اللغة، وإلزام العقود من الطلاق وغيره مبنى على نية المتكلم أو عرفه، لا على اللغة ولا على عرف غيره، هذا فيما يرجع إلى الفتوى. وأما ما يرجع إلى الحكم فأمر آخر لمنازعة غيره له، فإنما يحكم بعرفه لا بنيته، لاحتمال كذبه فيما يدعيه من النية، فالحكم مترتب على العرف، سواء كان ذلك العرف ناقلا عن اللغة أم عرف سابق عليه ناقل عن اللغة.
وعلى الجملة، فالاعتبار بالاستعمال الجاري في زمن وقوع العقد، فإن كان لغة جرى الحكم بحسبه، وإن كان عرفاً ناسخاً لها أو لعرف ناسخ لها فكذلك، هذا إن لم يقصد ما رأيته، فإن لفظه فيه احتمال. انتهى كلام ابن الشاط رحمه الله، وهو كلام دقيق ومفيد، يفيد المفتى والقاضى في كثير من نوازل الأحكام والقضايا، لا في هذه المسألة فقط التي هي محل تعليقه وتحقيقه، والله أعلم.
(٥٣) الغارب في اللغة هو الكاهل، أو ما بين الظهر والسَّنام والعنق في الدابة. وأصل هذا التعبير أن راكب الدابة إذا أراد أن يطلقها تسير في المرعى كما شاءت، فإنه يطلق إمساكه بلجامها، ويضعه على ظهرها لتنطلق حرة في المرعى. وكذلك جاءت كلمة خلية من الخلو، وهو الفراغ، وبرية من البراءة، حيث تكون الزوجة خالية وفارغة من علاقتها وعصمتها الزوجية، وبريئة منها بحكم انحلال ميثاق الزوجية بالطلاق. وهذه الألفاظ والعبارات هي من ألفاظ الكناية الصريحة في الطلاق.

<<  <  ج: ص:  >  >>