للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الثانية في بيان عِلة تحريم جَرِّ السلف للنفع للمُسْلِف، وذلك أن الله عز وجل شرعَ السلف قَرْيَةً للمعروف، ولذلك استثناه من الربا المحرَّم، فيجوز دفع دِينارٍ لياخذ عوضه ديناراً إلى أجل قرضا، ترجيحا لمصلحة الإِحسان على مفْسدة الربا، (٩٣)، وهذا من الصور التي قدَّم الشرع فيها المندوبات على المحرَّمات، وهي من الصور التي تقتضي مصلحتها ترتيب الإِيجاب، لكن ترك الشرع ترتيب الإِيجاب عليها، رفقا بالعباد (٩٤). ويدلك على أن مصلحة السلف تقتضي الايجابَ معارضتُها للمحرم، بل أعظم من الايجاب لو كان، فإن المحرم يقدم على الواجب عند التعارض على الصحيح (٩٥)، فإذا وقع القرض ليجُرَّ نفعا، بطلت مصلحة


(٩٣) علق الشيخ ابن الشاط على هذه المسألة الثانية عند القرافي بقوله: "ما قاله من أن القرض مستثنىً من الربا المحرم ليس مسَلَّم لا صحيح، فإن الرببا لغةً، الزيادة، ولا زيادةَ في المثال الذي ذكره، والربا ممنوع شرعا، والقرض ليس بممنوع، وإنما وقع الخللُ من جهة اعتقادِ أن دينارا بدينارٍ إلى أجلٍ، ممنوع مطلقا، والأمر ليس كذلك، بل ذلك ممنوع على وجه البيع الذي شأنه عادةً، المكايَسة والمغابنَة، وليس بممنوع كل وجه القرض الذي شأنه المسامحة والمكارَمة، فهما أصلان، كل واحد منهما قائم بنفسه، وليس أحدما أصلا للآخر. وهو تعقيب هام، وجيه.
(٩٤) مثَّل لها شهاب الدين القراففي بمصلحة السّواك، قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسِّواكِ مع كل صلاة"، وهو حديث صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذَكَرَ أنَّه بسط الكلام على هذه المسألة في كتابه "المواقِيتُ في أحكام المواقيت".
وقد علق عليها الشيخ ابن الشاط بقوله: ما قاله من أن مصلحة السواك تقتضي الإِيجاب مُشْعِرٌ بأن المصالح والمفاسد أوصاف ذاتة للموصوف بها، وذلك رأي الفلاسفة والمتعزلة، وليس رأيَ الاشعرية أهل السنة، فإن أراد ذلكم فهو خطأ، وإن كان أراد غير ذلك فلفظه غير موفٍ لمراده". فلْيُنْظَر ذاك ولْيَتَأمَّل، والله أعلم،
(٩٥) قال ابن الشاط هنا: قد تبَيَّن أنه لا مُعارَضَة، لانهما أصلانِ متغايران، وعلى تقدير المعارضة، فقَولُه: "إنَّ المعارضة هنا تدل على أن مصلحة السلف تقتضي الوجوب" دَعوى، ولا حجة عليها إلا فحش الخطأ، وياليتَ شِعْرى، ما تقتضي المصلحة التي هي فوق ما يقضِي الايجاب؟ ، وهل فوق الايجاب رتْبةٌ أعلى منه؟ هذا كله تخليط وفي مهواة الاعتزال والتفلسف توريطٌ" أقول: رحم الله الشيخ ابن الشاط، وجزاه خيراً على تعليقاته وتحقيقاته الهامة والمفيدة في كثير من فروف القرافي وقواعده ومسائله المتفرعة، فإنَّه بتلك التحقيقات يوضح الغموض ويُبَيِّن الإِشكال في كثير من المسائل، ويزيل ما يكون في النفس ويَعْلَق بالذهن والفكر احيانا من غموض واستشكال. وفي نفس الوقت سامحه الله عما يكون منه ويَصْدُرُ عنه في عبارته أحياناً قليلة من شددة وقسوة تجاه الإِمام القرافي الذي له فضل السبق فيما كتبه وأصلَّه في هذا الكتاب من قواعد وفروع. =

<<  <  ج: ص:  >  >>